صحيفة إلكترونية مغربية عامة
خدماتنا دافميديا
خدماتنا دافميديا

عندما يصبح الفساد هو الوضع الطبيعي لا الاستثناء

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

عندما يصبح الفساد هو الوضع الطبيعي لا الاستثناء

محمد النـقاش

في عالم يفترض أن تُبنى فيه الحضارات على أسس راسخة من العدل والنزاهة، يتحول الفساد ليصبح بنية مؤسسية متكاملة، لا مجرد سلوكيات فردية معزولة. إنه وباء مزمن يستشري في أوصال الدولة، ويحول الحقوق المشروعة للمواطنين إلى مساومات سرية وصفقات مشبوهة تُبرم في الغرف المظلمة للسلطة والنفوذ.

لم يكن اعتقال أحمد قيلش، المنسق الجهوي لحزب الاتحاد الدستوري والأستاذ الجامعي المتخصص في القانون، مجرد خبر عابر في نشرات الأخبار، بل كان بمثابة زلزال مدوٍ هز أركان منظومة سمحت بانحدار القيم وتشويه المفاهيم. لقد كان صفعة قوية على وجه مجتمع بأكمله، كشفت عن مدى استشراء ثقافة “الكسب السريع” وتحويل العلم والمعرفة إلى مجرد سلع تجارية رخيصة، والتعليم إلى سوق سوداء تُباع فيها الشهادات الأكاديمية لمن يدفع الثمن الأكبر، بغض النظر عن الكفاءة أو الاستحقاق.

وحين يكشف التحقيق عن وصول حجم الأموال في الحساب البنكي لزوجته المحامية إلى ثمانية مليارات سنتيم، فإن القضية تتجاوز بكثير حدود الفعل الفردي لشخص متهم. إنها تكشف عن شبكة واسعة من المصالح المتداخلة، وعن بيئة خصبة للفساد تزدهر في ظل غياب الرقابة والمساءلة الحقيقية. في هذا السياق المريض، يصبح المال ليس مجرد وسيلة للتبادل، بل هو المحرك الأساسي للقرارات، والمعيار الوحيد للوصول إلى المناصب والنفوذ، بينما يصبح الفساد هو العمود الفقري الذي تستند إليه بعض المؤسسات.

الأكثر إثارة للقلق والدهشة هو الكشف عن تورط مسؤولين كبار في الدولة وقضاة يفترض فيهم أن يكونوا حراس العدل، في شراء شهادات علمية مزورة لاستخدامها في امتحانات ولوج مهنة المحاماة. هذا الأمر لا يقوض فقط الثقة الهشة أصلاً في المؤسسات القضائية والتعليمية، بل يطرح سؤالًا وجوديًا حول مستقبل هذه البلاد: كيف سُمح لهذا العبث الممنهج بالاستمرار طوال هذه المدة؟ ومن يملك الشجاعة والنزاهة الكافية لاقتلاع جذور هذا الفساد العميق والمتشعب؟

إن وصف هذه الأحداث بأنها ليست مجرد حوادث فردية أو تجاوزات معزولة، بل هي دليل قاطع وواضح على انهيار تدريجي لمعايير الاستحقاق والكفاءة، وهيمنة ثقافة النفوذ والمحسوبية في مختلف القطاعات. في ظل هذه الثقافة المريضة، تُحدد الفرص والترقيات لا بناءً على الجدارة والعمل الجاد، بل بحجم الثروة المتراكمة وعمق العلاقات الخفية في دهاليز السلطة.

ولكن، يبقى السؤال الأكثر إلحاحًا هو: هل ستبقى هذه الملفات والقضايا مجرد عناوين مثيرة للجدل في الصفحات الأولى للجرائد، تثير ضجة إعلامية مؤقتة ثم تتلاشى تدريجيًا في طي النسيان؟ أم أن هذه الأحداث الصادمة ستكون بمثابة نقطة تحول حاسمة تدفع نحو كشف الحقيقة كاملة غير منقوصة، والمطالبة الصارخة بمحاسبة كل من تلطخت أيديهم بجرائم الفساد واغتالت مبادئ النزاهة والشفافية باسم تحقيق مصالحهم الشخصية الضيقة؟ إن مستقبل هذا الوطن مرهون بالإجابة الفعلية على هذا السؤال المصيري.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اعلان اشهاري
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.