التكنولوجيا أم الإنسان؟ هل نمتلك وعيا رقميا حقيقيا للإجابة عن سؤال الإستغلال؟
التكنولوجيا أم الإنسان؟ هل نمتلك وعيا رقميا حقيقيا للإجابة عن سؤال الإستغلال؟
العتوبي عبدالإله “باحث في سوسيولوجيا الهشاشة والحياة اليومية”
في زمن التحول الرقمي المتسارع، أصبح مصطلح “الوعي الرقمي” يكتسي طابعا خاصا في النقاش العمومي عند النخبة التقنية. غير أن هذا الطابع غالبا ما يتم اختزاله في مهارات تقنية سطحية، مثل استخدام التطبيقات أو إنتاج المحتوى. لكن، هل هذا فعلا ما نعنيه بالوعي الرقمي؟
في الحقيقة، الوعي الرقمي الحقيقي لا يقتصر على معرفة كيفية استخدام التكنولوجيا، بل يتعدى ذلك إلى فهم كيفية استخدام التكنولوجيا للإنسان المرقمن (حسن شگدالي). فالمسألة لم تعد محصورة في مهارة تقنية، بل باتت ترتبط بموقع الفرد داخل منظومة رقمية ضخمة، تؤطر سلوكه وتعيد تشكيل وعيه.
إننا نعيش اليوم ما يمكن تسميته بـ “هشاشة الوعي الرقمي”. هذه الهشاشة لا تتجلى فقط في ضعف الوعي بخطورة التجسس الرقمي أو سرقة البيانات، بل في غياب الحس النقدي تجاه ما يعرض علينا باستمرار من محتوى، وفي استعدادنا اللاواعي للخضوع لمنطق “النقر”، “الإعجاب”، “الترند”، و”الظهور”.
الذات لم تعد ذاتا حرة، بل أصبحت ما يسميه بعض المفكرين بـ “الذات الخوارزمية”؛ ذاتا يعاد تشكيلها باستمرار عبر التفاعلات الرقمية، وفق منطق تقني صرف يفرغ الإنسان من إرادته ويعيد إنتاجه ككائن قابل للتوقع، والتوجيه، والاستثمار.
الخوارزميات التي تدير المنصات الرقمية ليست أدوات محايدة. إنها مصممة لتوجيه السلوك البشري، لا فقط لخدمته.
تريستان هاريس، مؤسس Center for Humane Technology، يشير إلى أن “الخوارزميات لا تقدم لك ما هو مهم، بل ما يبقيك أطول أمام شاشة العرض”. نحن هنا أمام ما يعرف بـ “اقتصاد الانتباه”، حيث يصبح وعيك سلعة تباع في سوق لا يعترف إلا بالمدة التي قضيتها وعيناك على الشاشة التي لا تتعدى بضع سنتيمترات.
وفي هذا السياق، تقدم سوازانا زوبوف، في كتابها The Age of Surveillance Capitalism، تحليلا عميقا للرأسمالية الرقمية، مؤكدة أن الهدف لم يعد فقط التنبؤ بسلوك المستخدم، بل إعادة تشكيله. وهنا تظهر خطورة ما نسميه بـ “ذوبانية المقاومة النفس-تقنية”، أي تفكك قدرة الإنسان على مقاومة الإغراءات الرقمية بسبب اندماجه التام في منظومة تغذيه بلذات فورية، وتحاصره بلغة الاختيارات، بينما في الحقيقة هو لا يختار شيئا.
في ظل هذه التحولات، تتحول الفضاءات الرقمية من أدوات للتواصل والمعرفة، إلى فضاءات هندسة اجتماعية دقيقة، تعيد إنتاج الإنسان حسب منطق السوق. وهكذا، تصبح “الفقاعة الرقمية” التي يعيش فيها المستخدم بمثابة سجن ناعم، تتماهى فيه الحرية مع الخضوع، والرغبة مع البرمجة.
من هنا، فإن الوعي الرقمي الحقيقي يقتضي تفكيك العلاقة النفس-تقنية التي تربط الذات بالتكنولوجيا والذات بعالمها المحيط. لا يكفي أن نتقن استخدام الأجهزة فقط، بل يجب أن نعيد فهم علاقتنا بها، نقديا، فلسفيا، وسياسيا.
نحن بحاجة إلى تربية رقمية جديدة، تدرس فيها مفاهيم مثل “الذات الخوارزمية”، “هندسة الرغبة”، و”مقاومة التوجيه الخفي”.
في الختام، ما لم ندرك بأن وعينا يعاد تشكيله تقنيا، فإننا سنظل نعيش داخل منظومة تنتج لنا واقعا مبرمجا، نتوهم فيه الحرية بينما نحن خاضعون.
إن الوعي الرقمي ليس رفاهية معرفية، بل فعل مقاومة في وجه عالم يسوق لنا أنفسنا كمنتوجات قابلة للاستثمار، لا كذوات إنسانية قيمية وأخلاقية.