صحيفة إلكترونية مغربية عامة
خدماتنا دافميديا
خدماتنا دافميديا

في قبضة الأزرق.. حين يتحول النضال الرقمي إلى سراب الحرية

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في قبضة الأزرق.. حين يتحول النضال الرقمي إلى سراب الحرية

يتناول الباحث في سوسيولوجيا الهشاشة والحياة اليومية، عبد الإله العتوبي، في هذا المقال تحولًا دقيقًا ومثيرًا للقلق في عالمنا الرقمي المعاصر. ففي ظل سطوة المنصات الرقمية، وخاصة فيسبوك، لم يعد “الناشط الفايسبوكي” ذلك المحرك المحتمل للتغيير الاجتماعي الذي بدا عليه في البدايات. بل أصبح أشبه بذات معلقة في فضاء الخوارزميات، تدفعها الرغبة في الحصول على تفاعل وإعجاب أكثر من دافع القناعة السياسية أو الانخراط العملي المنظم.

وهكذا يكتب:

من النضال إلى البوز: فخّ الحرية في زمن المد الأزرق

في زمن الهيمنة الرقمية، تحوّل “الناشط الفايسبوكي” من فاعل محتمل في التغيير الاجتماعي إلى ذات مُعلّقة في فراغ الخوارزميات، تحركها الرغبة في الاعتراف أكثر مما تحركها القناعة السياسية أو الانخراط الفعلي، ولم تعد ممارسته مرتبطة بالفعل الجماعي المؤطر كما في السياقات الديمقراطية، بل باتت سلوكًا فرديًا لحظيًا محكومًا بمنطق “الترند”، يلهث خلفه الخطاب قبل أن يُفهم، والموقف قبل أن يُؤسس. هذه السيولة الرمزية تُترجم في العالم العربي إلى نشاط احتجاجي يتغذى من الغضب لا من الفهم، ومن التفاعل لا من التحليل، حيث يهيمن منطق الحشد الرقمي الذي وصفه غوستاف لوبون، والذي يجعل من الجمهور كتلة منفعلة يسهل توجيهها عبر رموز سطحية وشعارات جاهزة. الأحداث التي عرفتها عدة دول، من أبرزها “الربيع العربي”، كشفت الوجه المتناقض لهذه الوسائط: فقد انطلقت شعارات الحرية من قلب المد الأزرق، لكنه سرعان ما تحوّل إلى فوضى، ثم إلى نكوص استبدادي في أكثر من بلد. الفايسبوك، الذي بدأ أداة تعبئة، صار أداة مراقبة، وتحول من ساحة تعبير إلى بنك بيانات تشتغل عليه الأجهزة. فعدد من الدول، كالسودان ومصر، اعتقلت نشطاء بناءً على منشوراتهم، وبعضهم اختُرق حسابه، أو استُعمل كطُعم لإيقاع مجموعات بأكملها. في المقابل، تحوّلت هذه الفضاءات في حالات كثيرة إلى غرف تضليل ممنهجة، تبث أخبارًا زائفة وتوجه الرأي العام حسب أجندات خفية. أما في المغرب، فقد شكّل الفايسبوك منذ حراك 20 فبراير مختبرًا تجريبيًا للدولة والمجتمع على حد سواء؛ فمن جهة استُعمل كوسيلة للاحتجاج والتوعية السياسية، ومن جهة أخرى تدرّجت السلطة في تطويعه: من التجاهل إلى الرصد، ثم الاختراق، فالاحتواء، وأخيرًا إعادة التوجيه. فحالات اعتقال نشطاء على خلفية منشوراتهم، أو استدعاء صحفيين بسبب تدوينات، تُظهر كيف لم تعد الحدود بين الفضاء الرقمي والمؤسساتي واضحة، وكيف أن من يصرخ من خلف الشاشة قد يُنادى عليه في العالم الواقعي. كما أن الدولة استطاعت خلق “نخب مضادة” رقمية، تستعمل نفس اللغة الشعبية ونفس أدوات السخرية، ولكن للدفاع عن الرواية الرسمية، ما يشبه نموذج “التوازن الخوارزمي” الذي يُفرغ الفعل الرقمي من قوته عبر إدماجه في دوامة ضجيج لا تنتهي. في العمق، هذه التحولات تذكرنا بتحليل ميشيل فوكو حول السلطة الحديثة التي لم تعد تُمارَس بالقمع فقط، بل بالتوجيه الناعم للمعلومة والرغبة. الناشط الرقمي العربي يعتقد أنه حر، ولكنه في الواقع عبد لمسارات تقنية لا يتحكم فيها، ومجرد “ذات مستعملة” داخل نظام أعقد مما يتصور. وإذا أضفنا لذلك البعد السوسيولوجي الذي طرحه بيار بورديو حول رأس المال الرمزي، فإن شرعية الناشط لا تُبنى باللايكات، بل بالتراكم والتأطير، وهذا ما نفتقده. النضال تحوّل إلى فرجة، والمنشور إلى صرخة، ولكن بلا صدى فعلي. النتيجة؟ “مجتمع سائل”، كما سماه زيغمونت باومان، يتشكل ويذوب بسرعة، بلا تنظيم، بلا أفق، وبلا ذاكرة جماعية. هكذا، يصبح “المدّ الأزرق” خطرًا حين يُنتج وهم الحرية، ويُصبح أداة حين يُستعمل للتوجيه الخفي، ويصير عبئًا حين يتحول الناشط إلى مهرج، وصاحب الموقف إلى مؤثر. السؤال ليس فقط: من يُعبّر في هذا الفضاء؟ بل أيضًا: من يملك مفاتيح التحكم فيه؟ وفي هذا السياق، يبدو أن العالم العربي عموماً، والمغرب خصوصاً، لم يستثمر هذه الوسائط لبناء وعي سياسي مستدام، بل تركها تتحول إلى حلبة استهلاك للغضب، وتجارة في التذمر، وصناعة لزعامات رقمية قصيرة العمر. لذلك، لسنا أمام “ثورة إعلامية”، بل أمام “فقاعة سردية”، تعيد إنتاج نفس علاقات الهيمنة، ولكن بلغة جديدة… وبوجه أزرق.

عبدالإله العتوبي، باحث في سوسيولوجيا الهشاشة والحياة اليومية.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

اعلان اشهاري
قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.