صحيفة إلكترونية مغربية عامة

البريكولاج مقاومة المعدومين اجتماعيا

صبري يوسف كاتب رأي وباحث بسلك الدكتوراه بعلم الاجتماع السياسي.

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

تنتشر ظواهر ترافق الإنسان وتحدّ من رؤيته الوردية للحياة، تكتسح وسط معيشه الدائم، ولا يجد حيلة للفهم إلّا إبداء الامتعاض المصاحب لنشوء ظاهرة تفرض نفسها في اليومي، ووحدها وسائل التواصل من تتكفّل بالكشف والفضح والاحتجاج بلا معنى، فلا يكون سوى الاتجاه رأسًا إلى فاعلين من أجل طرح قضايا غيرهم بضمير الغائب حيلة المستضعفين في عدوى انفعالات “سيكولوجية الجماهير”.

الإشكال هنا: من أين يأتي هؤلاء الناس الذين يمارسون أشكالًا متعددة من البريكولاج: (ماسحو الأحذية، ماسحو السيارات، بائعو الكلينيكس، بائعو الحلوى، حارسو السيارات… وغيرهم). دعونا أولًا نقدم عرضًا دقيقًا حول بروز ظاهرة (السترات الحمراء) بالشارع العام بالمغرب، والتي تفرض شروطها ولا تبالي بأحد.

قبل عقدين من الآن، كانت مدن المغرب ليست بواقع اليوم على مستويات: عدد السكان، عدد الأسر، التمدن، عدد المدن. ففيما مضى، كانت تتكفل الجماعات الحضرية ومجالس المدن بتفويت تلك المرافق (مواقف السيارات) للكراء للخواص، ومن ثم يتحكم هؤلاء الفاعلون بمراقبة مرافق الجماعة العمومية وحمايتها، وحماية الممتلكات ساعات من النهار. الأداء مقابل مهمة، مع ورقة يدفعها الحارس إلى المعني بركن سيارته، وتنتهي التبادلات هنا. وظيفة الحراسة مقابل سومة يتعارف عليها الجميع وفق دفتر تحملات صاغه المجلس الجماعي وأعده، ويتناسب مع الحياة الاجتماعية والاقتصادية للمجال الذي يركن فيه الناس عرباتهم.

وتختلف تلك الدفاتر بين المدن الساحلية والسياحية، وكذلك بين الفصول، فالمزار البحري ليس كالجبل، وليس كالنهر، ولا يوازي طبيعة الأداء والنشاط مجالات قد تفتقر لمؤهلات، ويكون بالتالي الدفع أقل، إلا أنه كان دائمًا تعاقدًا طبيعيًا ومعلومًا، ومعروفًا أصحاب الحقوق فيه، وواضحة تفاصيل العملية برمتها. وكانت مهمة الحارس تتصف بصفات، أهمها تعليق صك المهنة مدقوقًا على قطعة معدنية على صدره، مع توكيد السن، والوراثة أحيانًا لممارسي المهنة، حيث يخلف الابن أباه، وهكذا دواليك.

كانت الحقوق مشاعة بين هذا المكتري وغريمه في مدينة واحدة، تتوزع فيها المداخيل والمواقف والإكرية والتنافس، ويستفيد الجميع من تدبير جماعي يعرف خلاله الفاعل المنتخب (المجالس الجماعية) كيف يتوقع مداخيل الميزانية بناءً على قناعات نصية “ذاتية، مشتركة، ومنقولة”، تتجلى فيها عبقرية الجماعة كشخص اعتباري خاضع للقانون العام، واقعي، يفعل فوق ترابه ما يشاء، وفق ما ينزل إليه من المؤسسات الدستورية، وما تتضمنه الدوريات، وما يخدم بالتالي الحق والواجب، وينظم الحياة الجماعية والمرفق العام دفعة واحدة.

ربما كانت استراتيجيات الحكومات التنازل للمقاولات “العبر-دولية” في إطار اقتصاد سوق منفتح وتنافسي يؤمن بمفهوم “المناولة” لتدبير قطاعات كالكهرباء، والماء، والنظافة، والبستنة، وصولًا إلى فكرة تدبير مواقف السيارات وما شابه. لكن، ماذا حدث حتى أصبحنا أمام مشاهد للعنف، وتزايد عدد المتدخلين، وظهور قواعد سلوك لا يهتم أصحابها لمن تكون؟ ولا بما يتوجب فعله في حارس موقف السيارات؟ بل يفعل هؤلاء تلقائيًا ما يحلو لهم مع المرتفقين، والعابرين، والمصطافين.

يتعدى الأمر ذلك إلى حالة من الفوبيا (الخوف) من الاصطدام بهؤلاء في أي مكان تقصده، ما قد يقلب فرحك حزنًا وحسرة. لقد تجاوزت هذه الظاهرة المجال العام إلى تغذية “انفعالات” صار الجميع يشعر بها أينما توقف، إذ يظهر له عنصر للحراسة، ثم عنصران، فثلاثة، حتى أصبحنا أمام مظاهر تحتاج إلى فهم أعمق لما يحصل هنا وهناك؟

من الطبيعي أن تتطور المجتمعات، وأن تكبر أزماتها، وأن تتغير أحوال الناس فيها، إما إلى الأسوأ أو إلى الأفضل، أي إلى تحقيق تنمية براسين: تنمية للمجال وتنمية بشرية خالصة، ومعناه: توسيع إمكانات الناس واختياراتهم، وسيتابع البحث العلمي بالجامعات كل معدلات التغير، والديناميات الاجتماعية، ومعايير السلوك والمتغيرات، -وبالأساس- سيتناول علم الاجتماع أوضاعا: التربية والتمدرس والصحة والفعل العمومي، وستنجز مؤسسات ومختبرات أبحاث لفهم سيرورات انتقال هذا المجتمع من حالة إلى أخرى وفهم كيف حدث تطور أو تراجع ودراسة نتائجه، وسيكون مهما بعلم الاجتماع والاقتصاد تناول الديمغرافية وإحصاء السكان والنشاط وشكل النشاط، إلى بيانات حوا “النظافة الشخصية” مرورا بالشغل، البطالة، الانحراف، العجز، المرض، الهشاشة، التسول، الإعاقة، الجنون، من أجل التحكم في الظواهر وفهمها ومحاولة تعقبها، وإخراج الناس منها أو -على الأكثر- إيجاد حلول للحد منها ومراقبتها.

لذلك فظاهرة الحراس التي باتت منتشرة بكل زقاق هي واحدة من مسارات بحثية يسميها علم الاجتماع، “بأشكال المقاومة في الفضاء العام”، وعندما نقول مقاومة فإننا بصدد نشاط لا ينتمي إلى قطاع عام أو خاص أو غير مهيكل، بل هي “أشكال أولية” مدروسة بعناية من طرف أصحابها، فالتسول كظاهرة معروفة لكن بروز أنماط أخرى للتسول غير المكشوف من خلال: إما استغلال الأطفال أو بيع المناديل أو الحلوى أو ادعاء الأعطاب الصحية بالحافلات أو بيع وصفات طبية بالنقل العام وإزعاج ركاب الرحلات العمومية اليومية بالحافلات، وإزعاج أرباب المقاهي والزبائن، وإبداع طرق لا تقل عن نفس الفهم غير المباشر للتسول، من خلال نموذج للحراسة متقدم وعنيف، كذلك التحرش بالمركبات، والمواقف والمرائب والنزلاء والزوار والمسافرين، ولك أن تتخيل ألف حيلة هي وجه غير بريء يستدعي التسول والفقر وثقافة الفقر وثقافة الفقير، الذي أصبح يستعمل الطفل وأوراق وصفات طبية قديمة يعثر عليها ببراميل القمامة من أجل إعطاء سلوكه فهما يستجدي عطف المارة والناس في كل مكان “تجمع” بغرض المال لغاية العيش!؟

فهل سندعي أن كل هذه الظواهر التي تتسع مكمنها رغبة هؤلاء فقط في اقتحام الفضاءات العامة غرورًا؟ كذلك القدرة على دق أبواب البيوت من أجل نفس الغاية بطلب المساعدة لمريض أو غيرها من طرق التسول التي يتقن الزمن في أن يسبغ عليها أصحابها الحق، وتكاد أدوات التكنولوجيا والتواصل أن تساعد بالفعل في تعميم ما خفي منها وما كان جهويًا أو محليًا ليتحول إلى شكل وطني للتسول يتشابه بالفعل، ويكاد يكون صورة واحدة لمضمون وحيد: ماذا يجري اليوم بكل مكان من هذا المغرب الذي تتمسك فيه طبقات اجتماعية بوسائل غير أخلاقية وغير شرعية ولا قانونية سواء لالتماس الإحسان أو طلب المال والتسول؟

وهل تكفي المقاربات الزجرية والقانونية والتضامن وما إلى ذلك من القضاء على ظواهر تطورت وصار لها مدافعون عنها لأنها وسيلة عيش أسر وجماعات واسعة من الناس؟

فعندما تصبح الظواهر مرضية تضفي على المجتمع بروز مسارات للناس أغلب هذه المسارات غير شفافة ولا واقعية، فإننا بالتالي أمام معضلة تحتاج إلى التدخل، مع أن أشكال المقاومة بالفضاءات العامة اليوم تكاد تسرق الأضواء بكل مكان (البغاء، عرض الذات على النت، المحتويات غير الأخلاقية بالصوت والصورة، التكبيس.. إلخ)، نحن أمام بنيات اجتماعية لم تعد تتغذى من الاقتصاد الرسمي (المهيكل وغير المهيكل)، بل من إمكانات واسعة ينتجها “اقتصاد المقاومة في الفضاءات العامة” إذا جاز أن أسميه، ويعيش منه الكثيرون، فالأمر لا يعني فقط معدلات الفساد أو ارتفاع الهدر المدرسي أو تدني مستويات التمدرس والأمية وغياب قطاعات واعدة كالصحة والوعي والثقافة عن الحياة العامة، إنما نحن أمام واقع يستفحل بالنظر إلى اقتصاد رقمي على المنصات لمحتويات غير أخلاقية، تتسول، وصورة مادية تقابلها أشكال للمقاومة هي الأخرى تدر مالًا،ويستطيع أصحابها العيش وفق هذه الأدوات كما يرغبون هم وليس الباقين المتضايقين من حارس السيارة الذي لا يقبل بأقل من ثلاث دراهم للعربة خارج القانون وخارج حدود مسؤوليات الجماعة (صاحبة الأرض) وخارج الضوابط، نحن جميعًا أمام جيش جديد من أشكال “اقتصاد المقاومة” الذي يزحف في كل مساحة صغيرة يتملكها بالقوة، ويتحكم في مصير الناس، ويرهقهم، دون قدرة أي كان من الفاعلين على وقف النزيف الذي يعطل مصالح الناس ويشتت الانتباه حول مقاصد السياسات العمومية إذا كان كل “مهمش” قد وجد لنفسه (حيلته) للعيش “بكرامة”، وهنا يتشظى المفهوم ذاته الذي تنشده مؤشرات التنمية 17 عشر، بكل ما تحمله من إجراءات (94، إجراءً) ونصدق أننا جميعًا قادرون على الذهاب حيث نريد، وأننا بصدد أكل ما نريد والتبضع مما نريد،

وأننا أحرار وفي هذا كله، تتزاحم خواطر الذين يتملكون الشوارع تحت سلطتهم (العراب Goodfather)، ويمرون إلى التحكم بكل صغيرة وكبيرة في الفضاء الذي يصبح مناهضًا للحريات، حرية التجول، والتملك، لأن جهة أخرى صارت “الحكم”، ومع هذا وفي ظل صمتنا عن كل ما يقع، وقد صمتنا طويلًا (نيتشه)، نكون قبالة “قواعد” Normes، بدون عقاب Sanctions عن من حاول تجاوز القواعد (تالكوت بارسونز)، وبالتالي نشوء حالات لا تخضع للقانون، ولا للنظام العام، ولا لجوهر العيش المشترك، ومن العرف إلى ترسيخ أعراف، تؤسس لفهم جديد لاكتساح المجالات العامة والفضاءات، يغلب فيها غير الطبيعي،والغير منظم المنظم، ويتحدى فيها المقاوم المؤسس، ونكون أمام ميلاد جديد لفكرة الأعداء والأصدقاء (كارل شميت)، هذا حارس صديق وهذا متسول طيب، وذلك بائع كلينكس لطيف وهذه سيدة حلوى خجولة، وهذا مستغل فضاء عام مسامح كريم، وننسى ونتعايش مع منغصات للحياة الاجتماعية الجماعية التي سرعان ما ننتبه إلى أننا فرطنا أولًا وقبل مدة بكشف عيوب الفعل العمومي والسياسات بالجهات الفقيرة والأقاليم الفقيرة والمدن والضواحي الفقيرة، والأحياء الفقيرة والأسر الفقيرة والفرد الفقير المتسول منشأ “كرة الثلج ونظرية الفراشة”.

أولم يقولوا إن كل ما يتدحرج صغيرًا يكبر، ولا يصبح لأغنية Rod Stewart “صغير للأبد forever young” أي معنى، كما لا يصبح نفع لرياح التغيير في استحالة معالجة الخلل بالتغيير، ويملأ الجو ضباب الردة عن رغبة scorpion رسم معالم عالم جديد بأغنية كانت حلم الحالمين كذبتها الحروب والانكسارات التي أعقبت 1989 دوليًا، وقد يحدث بالأوطان التي عليها أن تعي أو يعي فيها العقلاء أن ما يظهر ويختفي في الأوبئة عادة ما يعود ليشكل جائحة، فكذلك أزمة التنمية والرفاهية التي يحلم بها الجميع، يدعيها الجميع، يراقبها الكل، تؤمن بها كل الشرائح لكن تفضحها شمس النهار بمواقف السيارات والشوارع والعابرين على مقاعد المقاهي حيث يبيع الأطفال والنساء الحلوى ومناديل تنظيف الأنوف والأيادي في جو لا يبعث عن الزكام المزمن، ولا يبعث عن كثرة أعياد الميلاد المحتاجة للحلوى تكرارًا، التي يحملها طفل أعطته والدته مصيدة الاختباء تحت “مقاومة” تمليها الظروف خوفًا على الكرامة، فها هي الكرامة قد تشظت بالشارع العام، الذي صار هو الآخر مزدحمًا باحتلال الملك العام، ترى أين يذهب الجميع وأين يمكن للتنمية أن تقف على رجليها في كل هذا القطاع الواسع من أشكال المقاومة واقتصاد المقاومة غير العاقل.

صبري يوسف كاتب رأي وباحث بسلك الدكتوراه بعلم الاجتماع السياسي.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!