في حضن ماريان..أطفال بلا إسم..بلا ظل

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

في حضن ماريان..أطفال بلا إسم..بلا ظل

بقلم : زكية لعروسي

في فرنسا اليوم، يعلو السؤال قبل الصوت: كيف يمكن لبلد رفع راية حقوق الإنسان أن يترك الأطفال وحدهم في مواجهة الليل؟ خلف ضجيج الخطابات المألوفة، يقف واقع بارد، صامت، ومربك. لجنة حقوق الطفل في الأمم المتحدة لم تكتف بالتلميح، بل قالتها صراحة: فرنسا ترتكب إنتهاكات جسيمة ومنهجية بحق الأطفال المهاجرين غير المصحوبين، أولئك الذين لم يطلبوا سوى أن يعاملوا كأطفال، لا كأرقام في سجلات الشك.
هؤلاء الصغار، القادمون من ضفاف بعيدة، يجدون أنفسهم في أرض تعدهم بالحماية ثم تحاسبهم عليها. يعرضون على فحوص العظام لتحديد أعمارهم، تفكك ملامحهم كما تفكك الأدلة في قضايا الجريمة، وكأن الطفولة باتت تحتاج إلى شهادة إثبات. تقارير الأمم المتحدة تشير إلى أن ما بين خمسين وثمانين في المئة ممن ترفضهم السلطات باعتبارهم بالغين يعاد الاعتراف بهم كقاصرين بعد إعادة التقييم. هذه الأرقام لا تصرخ، لكنها تفضح. إنها تضع الدولة أمام مرآة لا ترحم، مرآة تقول إن الخطأ لم يعد إستثناء، بل ممارسة راسخة.
وفي إنتظار الحقيقة البيروقراطية، قد تمتد الأشهر كالأعوام. ثمانية أشهر وربما أكثر يقضيها هؤلاء في العراء، في حواف المدن، تحت الجسور، في حدائق تغلق أبوابها عند الغروب. بلا مأوى، بلا رعاية، بلا مدرسة. يكتشفون معنى أن تنتزع الطفولة منك بالتدريج، وأن يصبح الخوف رفيقا يوميا لا يفارقك. فرنسا التي وعدتهم بالحماية تدرّبهم، من حيث لا تدري، على البقاء في الفراغ.
ليس الأمر سوء إدارة، بل خللا في الرؤية. حين يصبح القانون أداة شك، يفقد معناه. الدولة التي تفترض الكذب قبل أن تسمع، تسهم في خلق واقع بلا ثقة، بلا رحمة. تقرير الأمم المتحدة تحدّث أيضا عن حالات احتجاز في المطارات ومراكز الترحيل، حيث يعامل بعض الأطفال كخطر محتمل لمجرد أن أسماءهم غامضة أو أوراقهم ناقصة. هذه الإجراءات، التي تبرر بالضرورة الأمنية، تنقلب لتصبح عنفا قانونيا، شكلا من أشكال العقاب المسبق.
وراء الأرقام، هناك وجوه. في شوارع باريس وليون وليل، يمكن أن ترى الأطفال المهاجرين من غرب إفريقيا أو الشرق الأوسط، يحملون بقايا أحلام صغيرة وذكريات من حروب لم يفهموها. في تلك العيون سؤال واحد لا يقال: لماذا يعاقبنا العالم لأننا نجونا؟ هؤلاء ليسوا مجرد ضحايا عابرين، بل مرايا لضمير أوروبي بدأ يبهت.
فرنسا تمتلك تاريخا طويلا من الدفاع عن الكرامة، لكنها اليوم تتعثر في اختبارها الأشدّ قسوة. المشكلة ليست في نقص الإمكانات، بل في نقص الإرادة. ليست في القانون، بل في تطبيقه بعدالة. يمكن لأي دولة أن تخطئ، لكن الخطر يبدأ حين يتحول الخطأ إلى عادة. حين يصبح التجاهل سياسة، والصمت إستراتيجية.
تظهر الإحصاءات أن نحو اثني عشر ألف قاصر غير مصحوب يعيشون في فرنسا، لكن العدد الحقيقي أكبر. بعضهم لم يسجّل قط، وبعضهم إختفى ببساطة. تحت هذا الظلّ الثقيل، تصعد أسئلة لا إجابة لها: ما معنى أن تكون جمهورية تدافع عن القيم إذا كانت لا ترى ملامح طفل جائع؟ ما جدوى الشعارات إن كانت لا تضيء طريقا نحو سرير آمن أو وجبة ساخنة؟
إن صدق الأمم لا يقاس بما تكتبه في دساتيرها، بل بما تفعله حين لا يراها أحد. وفي هذا الزمن الذي يباع فيه الضمير بثمن المصلحة، يصبح الدفاع عن الطفولة فعلا سياسيا بامتياز. فهؤلاء الأطفال ليسوا غرباء، بل مرآة لفرنسا نفسها. إما أن تراهم وتستعيد وجهها الإنساني، أو أن تغض الطرف وتخسر روحها.
المسألة لم تعد قضية مهاجرين، بل إمتحان أخلاقي. بين القانون والرحمة خيط رفيع، لكنه هو الذي يحدد إن كانت الدولة ما تزال بشرية. على هذا الخيط تمشي فرنسا الآن، تتردد بين صوت يقول “إحموا الأطفال”، وآخر يهمس “إحموا الحدود”. وفي تلك المسافة الصغيرة بين الكلمتين، يقاس اليوم مستقبل إنسانيتها.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!