المنظومة الأخلاقية والمواطنة الصادقة من منظور سوسيولوجي

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

المنظومة الأخلاقية والمواطنة الصادقة من منظور سوسيولوجي

نبيل بلعطار: دكتور في علم الاجتماع السياسي والديني ، باحث في العلوم القانونية والهندسة الاجتماعية.

تعد المنظومة الأخلاقية ركنا أساسيا في بناء الإنسان والمجتمع، إذ تشكل الإطار الذي تنتظم داخله القيم والمعايير التي تهذب السلوك وتوجه الأفراد نحو الانتماء الواعي والمواطنة الصادقة. فالأخلاق فضلا عن كونها فضائل فردية، هي أيضا نسيج يربط بين مكونات المجتمع، ويضمن توازنه واستقراره واستمراريته على المستويات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية والثقافية.

الأخلاق هي عماد الحضارة، ونقطة ارتكاز الأسرة، والمدخل الأصيل لأي مشروع تنموي حقيقي. فهي تبدأ من البيت، حيث يتشكل الوعي الأول بالقيم، ثم تتعزز عبر المدرسة التي تغرس روح الانضباط والاحترام، وتترسخ في الفضاء العمومي من خلال ممارسة الأمانة والنزاهة في العمل والإخلاص في أداء الواجب. فالضمير المهني والأخلاقي ينبع من التنشئة الأولى داخل الأسرة ومن التربية الدينية السليمة، ويتعزز بمفهوم الجدية كقيمة إصلاحية واستباقية تسعى إلى ترسيخ ثقافة الإتقان والمسؤولية.

إن الجدية ليست صفة عرضية، وإنما هي نتاج منظومة متكاملة تنشئ الإنسان على احترام الوقت والعمل والالتزام. وهي قيمة يجب أن تحظى بالحماية والرعاية من طرف المجتمع والمؤسسات، لأنها تشكل الأساس الذي تقوم عليه الثقة العامة وتتحقق من خلاله التنمية البشرية.

إن إعداد المجال الأخلاقي السليم يتطلب إعداد الفكر والسلوك، ومواكبة التحولات الثقافية، وتوفير مناخ تربوي وثقافي ورياضي يسمح بتفريغ الطاقات الشابة في مسارات بناءة، كالأنشطة الفنية، وحفظ القرآن، والموسيقى الهادفة، والرياضة، والمشاركة في المنتديات الوطنية والدولية، بما يرسخ روح المواطنة والانفتاح على الحضارات.

تتجلى قوة المنظومة الأخلاقية في قدرتها على ضمان التوازن بين الأسرة والمدرسة والمسجد والإدارة والمرافق الخاصة، باعتبارها مؤسسات تؤدي وظائف تكاملية في تكوين المواطن الصالح. فالمواطنة الحقة لا تنشأ إلا من خلال ممارسة القيم في الواقع، ومن خلال تحويلها إلى سلوك يومي في العمل والعلاقات الاجتماعية. إن خدمات بسيطة تؤدى بروح المسؤولية وبلغة التواصل الإيجابي قادرة على بناء الثقة بين المواطن والمؤسسة، وتشكيل جدار واق ضد مظاهر الانحلال والتأثيرات الخارجية السلبية.

من زاوية سوسيولوجية، تشكل التربية الأخلاقية حجر الزاوية في التنشئة الاجتماعية، حيث يتعلم الطفل احترام الكبار وتوقير العلماء والتضامن مع الجيران والمشاركة في المناسبات الوطنية والدينية. فهذه الممارسات البسيطة تحمل في طياتها رموزا عميقة لتماسك المجتمع وتعزيز الانتماء إليه. والأب في هذا الإطار يؤدي دور الموجه والمراقب، فيما تضطلع الأم بمهمة حفظ التوازن داخل الأسرة، وتغذية الأبناء بالعاطفة والتربية السليمة وإعدادهم لخوض الحياة بثقة وانضباط.

الأسرة إذن هي المؤسسة الأولى في بناء المنظومة الأخلاقية، والمدرسة تأتي لتكمل هذا البناء من خلال مناهج تربوية تعزز قيم الاحترام والتعاون والنجاح. ودور الأستاذ محوري في هذا السياق، فهو قدوة فكرية وروحية لتلاميذه، ومساهم في تشكيل شخصياتهم عبر التوجيه والرعاية والمتابعة النفسية والاجتماعية.

أما الجيل الجديد، الذي يمكن تسميته بالجيل الرابع، فقد نشأ في بيئة مختلفة تماما عن الأجيال السابقة، بفعل التحول الرقمي الذي غير أنماط التواصل والتفكير. أصبحت الشبكة العنكبية مؤسسة قائمة بذاتها تمارس تأثيرا عميقا على عقول الناشئة، ما يجعل من الضروري إعادة النظر في أساليب التربية والمراقبة، ودعم القيم الأصيلة التي تحمي الأفراد من الانزلاق وراء النزعات الفردانية أو السلوكيات المنحلة.

إن بناء الفرد الأخلاقي في العصر الرقمي يستوجب الجمع بين الحرية والمسؤولية، وبين الانفتاح والالتزام، وبين المصلحة الفردية والمصلحة العامة. ومن هنا تبرز أهمية العودة إلى روح القيم الوطنية والدينية التي شكلت هوية المجتمع المغربي، والتي تقوم على الجد وحب الوطن والاعتزاز بالموروث الثقافي والروحي.

في هذا الإطار، يمكن الاستفادة من نظرية “إميل دوركهايم” في التربية الأخلاقية، التي حددت ثلاث ركائز أساسية لضمان فاعلية القيم في المجتمع. أولها روح النظام، أي احترام القواعد والسلطة والانضباط بوصفها أساسا للحياة الجماعية. وثانيها الالتزام الاجتماعي، الذي يعزز انتماء الفرد لمجتمعه وإحساسه بالمسؤولية تجاهه. وثالثها الذكاء الأخلاقي، الذي يتيح للإنسان التمييز بين ما يخدم الصالح العام وما يعطل مسار الجماعة، ويدفعه إلى ممارسة النقد الذاتي والتفكير في آثار أفعاله.

تطبيق هذه المبادئ على الواقع المغربي يعني ضرورة دعم الأسرة والمدرسة كمؤسستين أساسيتين في إنتاج المواطن الواعي، وتغذية الإحساس بالانتماء الوطني، ومحاصرة مظاهر العنف والتقصير في أداء الواجب. كما يفرض ذلك تطوير سياسات تربوية تواكب التحولات الرقمية، وتحد من تأثير المحتويات المنحرفة التي تروج على المنصات الإلكترونية.

يتعين على الفاعلين التربويين والاجتماعيين مواكبة الأبناء في علاقتهم بالعالم الرقمي، وتوجيههم نحو الاستخدام الإيجابي للتكنولوجيا، وتشجيعهم على الانخراط في أنشطة ثقافية ورياضية وروحية تغذي فيهم روح الانتماء والمسؤولية. كما أن إعادة بناء الثقة بين المواطن والمؤسسات تمر عبر ترسيخ قيم الحوار الجاد، واحترام المرفق العمومي، وتعزيز الروابط الاجتماعية القائمة على الصدق والإخلاص.

لابد من الإيمان بأن المنظومة الأخلاقية، في راهننا وتطلعاته، لا يمكن أن تكون مجرد ترف فكري أو خطاب دعوي، بل هي حاجة مجتمعية ملحة لبناء مواطنة حقيقية تستند إلى قيم التضامن والاحترام والجدية. ومن دونها لا يمكن تصور تنمية مستدامة ولا إصلاح مؤسساتي فعال، لأن الأخلاق تظل الشرط الأول لبقاء المجتمع متماسكا، قادرا على مواجهة التحديات ومؤمنا بأن حب الوطن لا يكون شعارا، بل ممارسة يومية نابعة من ضمير حي وإيمان صادق.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!