ربي مسَّني الضرُّ… والثقافة مسَّها الصمت: آن للثقافة أن تتكلم بإسم المغرب

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

ربي مسَّني الضرُّ… والثقافة مسَّها الصمت: آن للثقافة أن تتكلم بإسم المغرب

بقلم: زكية لعروسي

ربنا إن صدرنا قد ضاق، وضاقت معه فسحة الأمل في أن تصغي المؤسسات الرسمية إلى نداء المثقفين المغاربة في باريس، أولئك الذين ما فتئوا يكتبون ويقترحون وينتظرون جوابا لا يأتي.
كيف يعقل أن يظل المغرب، هذا البلد الذي نسج حضارته بخيوط من نور تمتد من فاس إلى الداخلة، غائبا عن المشهد الثقافي في عاصمة الأنوار؟
كيف يعقل أن نتوسل إذنا لتنظيم نشاط ثقافي بسيط، كأننا نطلب حقا في الوجود، أو نلتمس براءة إنتماء في فضاء نفترض أننا أحد صناعه، بينما أمم الأرض تجعل من الثقافة جسرا وسلاحا وراية دبلوماسية؟
إنها صرخة وعي في وجه الغياب، في وجوه تطفئ وهج المبادرات وتكتم أنفاس الحالمين بوطن يشع فكرا وجمالا في قلب أوروبا.
ليست هذه مجرد أسئلة، بل مرارة تتسرب إلى الحبر، وصوت صدق يعلو من بين الجدران التي لم تعد تسمع.
لقد كتبنا وكتبنا، وطرقنا الأبواب، وتركنا في المكاتب مقترحات ومشاريع، لكن الصمت أطول من الحلم، والانتظار أشد وطأة من الرفض.
ومع ذلك، لا بد أن نقولها بوضوح: الثقافة لا تنتظر توقيعا ولا مرسوما، إنها فعل حياة، تنبض حتى حين تغلق الأبواب، وتشع من بين الشقوق إذا خنقت الأنوار.
حين نظمت الكونفدرالية العامة لمقاولات المغرب والـ MEDEF الفرنسي منتدى اقتصاديا بمدينة الداخلة تحت شعار “نحو شراكة جديدة بين المغرب وفرنسا”، رأينا كيف تتحرك العجلة الاقتصادية بذكاء إستراتيجي، وكيف يراد للمغرب أن يكون بوابة نحو إفريقيا ومركزا ديناميكيا للابتكار والاستثمار.
رأينا كيف تتحرك السياسة بلباس الاقتصاد، وكيف تفتح الآفاق أمام التعاون والشراكة.
لكن السؤال الذي يصرخ من أعماقنا هو:
أين هي البوابة الثقافية؟ أين الجسر الرمزي الذي يصل باريس بالداخلة، والرباط بمرسيليا، وفاس بليون؟
أين هو الصوت المغربي في باريس، في المسرح، والفكر، والموسيقى، والفن التشكيلي؟
الاقتصاد بلا ثقافة جسد بلا روح، والدبلوماسية بلا إبداع وجه بلا ملامح.
لقد آن الأوان لأن يكون للمغرب في باريس مركز ثقافي حقيقي، حر ومستقل، يعبر عن مغرب الإبداع لا مغرب التصريحات الرسمية.
ما نريد هو اعتراف بأن الثقافة هي الوجه الآخر للدبلوماسية، وأنها الرهان الأعمق في بناء الصورة الحقيقية للمغرب.
نريد مركزا ثقافيا مغربيا في باريس، فضاء حرا ومستقلا، يحتضن المبدعين والمفكرين، ويعرّف بثراء بلادنا وتنوع لغاتها وأصواتها.
نريده بيتا مفتوحا، لا سجلا إداريا ينتظر توقيعا أو إذنا أو لجنة.
يقال لنا: هناك دار المغرب.
لكن كيف السبيل إليها؟ كم من مشروع ثقافي مات على عتبتها؟ كم من فنان وشاعر وموسيقي انتظر دوره حتى خبا صوته؟
دار المغرب يجب أن تكون بيتا حقيقيا للثقافة المغربية، لا مؤسسة جامدة تتقن الانتظار أكثر مما تمارس الفعل.
البيت الذي لا تنصت جدرانه إلى نبض المثقفين المغاربة في المهجر، لا يستحق أن يسمى دارا للمغرب.
نريد مركزا ثقافيا يعرف بتراثنا، يواكب فننا المعاصر، ويربط الماضي بالمستقبل.
مركزا مستقلا في فكره، متجذرا في قيمه، مفتوحا على الإنسانية.
المغرب الذي أنجب ابن رشد، وجاب العالم بابن بطوطة، وأنار بفكره الأندلس، وعلّم العالم معنى التعدد والتسامح، وصاغ الشعر بالعربية والأمازيغية والعبرية والفرنسية، لا يمكن أن يظل متفرجا على المشهد الثقافي الباريسي وهو من صنّاعه الأوائل.
فلا يليق بهذا المغرب الذي نؤمن به أن يظل غائبا في مدينة تنصت لكل الثقافات إلا صوته.
نريد أن نعيد إلى المغرب في باريس مكانته التي يستحقها: أن يرى لا كضيف عابر، بل كفاعل حضاري يقدم للعالم فنا وفكرا ولغة وهوية.
إننا لا نطالب بمكان نعلق فيه لوحاتنا فقط، بل نطالب باعتراف بدور الثقافة كركيزة للدبلوماسية، وبأن ينظر إلى المثقف والفنان كحامل للهوية لا كزينة للمناسبات.
لقد آن للمغرب أن يصغي إلى أبنائه الذين يبدعون في باريس بدم القلب، أن يدعم مبادراتهم بدل أن يتركهم في متاهة الانتظار.
الثقافة لا تنتظر، والوقت ليس في صالح الغياب.
لسنا نكتب من باب الشكوى، بل من باب الغيرة والكرامة.
لسنا نطلب مقرا من إسمنت، بل فضاء من ضوء.
فالثقافة ضرورة سيادية، هي الحارس الأول لصورة الوطن، وسفيره الذي لا ينام.
ربي إن صدورنا قد ضاقت من طول الانتظار، لكن الأمل لا يضيق.
سنظل نكتب وننادي، لأننا نؤمن أن الوطن الذي يصغي إلى مثقفيه لا يخشى على نفسه من العتمة.
فلتكن باريس منارتنا القادمة، ولنجعل من هذا المركز الثقافي المغربي المرتقب وعدا للكرامة قبل أن يكون وعدا للبناء.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!