المهاجر جندي بلا سلاح في معركة الاقتصاد الأوروبي
بقلم: زكية لعروسي
كنت أظنّ أن الهجرة هدوء، أن المهجر فسحة لتبديل الهواء، أن السفر خارج حدود الوطن هو فتح أبواب لحياة جديدة أكثر رحابة. لكن كل ذلك كان مجرد غشاوة على عيني. كنت أستعمل “الطُّوبيسْ” مع شروق الشمس، أراقب وجوها تحمل ملامح البورجوازية الصغيرة، وجوها مطمئنة، مشبعة بالراحة التي تمنحها الوظائف المريحة والبيوت الدافئة. غير أن تلك الصورة سرعان ما تشققت عند الخامسة صباحا، حين رأيت الحقيقة عارية: جموع المهاجرين كجنود في صفوف مرصوصة، نمل بشري يزحف صوب مواقع العمل، يجرّون أجسادهم المتعبة، وجوههم شاحبة، عيونهم نصف مطفأة، لكنهم يذهبون رغم كل شيء…وعيت آنذاك ان الهجرة ليست سَفرا ولا نزهة. الهجرة ليست صورة مضاءة في جواز سفر، ولا هي وعود العيش الرغيد التي يتغنّى بها دعاةالحداثة.
الهجرة في حقيقتها تجنيد قاس، تجنيد يومي، بلا نياشين ولا أوسمة، جنودها وجوه شاحبة من قارتنا السمراء وآسيا المنهكة. يخرجون مع الفجر، صفوفا مرصوصة، كالنمل في موكب صامت، يزحفون نحو المعامل والمستشفيات والورشات.
أي عرش هذا الذي يتباهى بالحرية والمساواة، بينما يتكئ على ظهورهم المنحنية؟ أي جمهورية هذه التي تتغنّى بـ”القيم الإنسانية” بينما إقتصادها قائم على جلود مرهقة وأيد مغبرة؟ اوروبا التي تفاخر بتاريخها وحضارتها لم تعد إلا جسدا عجوزا يترنّح على عكاز، والعكاز هو المهاجر.
وجوه أحببتها الهجرة، لكنها وجوه مجنّدة. لا تملك رفاهية الاختيار، ولا وجه الكرامة الكاملة. بعضهم يحمل شهادات عليا: ماستر، وربما دكتوراه، لكنها أوراق تذبل في أدراج مظلمة. أمامهم واقع لا يرحم: تنظيف مستشفيات، حراسة أبواب، بناء طرقات، تسيير مترو، خدمة إقتصاد يبتلع كل شيء ولا يقدّم سوى الفتات.
يا لسخرية المشهد: يقال عنهم إنهم يهددون “النقاء العرقي” للحضارة الأوروبيةالأوروبية، بينما الحقيقة أن الأمة ذاتها تتكئ على أكتافهم المرهقة لتقف. كيف يمكن لمستشفى في باريس أن يعمل بلا ممرضات وممرضين من المغرب العربي؟ كيف تنظف المؤسسات العمومية دون أيدي هؤلاء الجنود المجهولين؟ كيف تبنى البنايات، وتدار الشركات، وتدور عجلة المترو واترام، لولا أنهم هناك، غير مرئيين لكن حاضرين في كل التفاصيل؟
وهنا تكمن المفارقة الصارخة: يقال عنهم إنهم يقتلون الحضارة اليونانية-الرومانية، بينما هم في الحقيقة يزرعون الحياة في شرايين جمهورية تشيخ وتضعف. هم الجنود المجهولون، يقاتلون بلا سلاح، يضحون بلا أناشيد، لكنهم باقون، ثابتون، أعمدة يستند عليها البناء.
الهجرة ليست عبئا كما يدّعون، بل هي الوقود الذي يحرّك المحرك الفرنسي. هي الدم الذي يضخّ في قلب وطن يتعالى على أصحابه. من دون هؤلاء “المجندين”، ستنهار فرنسا واروبا كصرح بلا أساس، وستتداعى الجمهورية كقصر رمل أمام أول موجة.
يا هؤلاء الذين تتكبرون على جنودكم الخفيين؟ كيف تنكرون من يبقيكم واقفين؟ اوروبا مدينة لهؤلاء الغرباء أكثر مما نظن ولو سقطت أكتافهم المنحنية، لسقط عرشها معهم.
أيها العابرون في شوارع الصباح، التفتوا جيدا:
إن الذين ترونهم في الخامسة فجرا، يزحفون في صمت كقوافل النمل، ليسوا مجرد عمال بسطاء. إنهم الجنود الحقيقيون لأوروبالأوروبا، جنود بلا بنادق، بلا رايات، بلا استعراضات عسكرية. أجسادهم العارية من الامتيازات هي السلاح، وعرق جباههم هو الذخيرة، وصبرهم هو الانضباط.
الهجرة ليست حلما، بل حرب يومية يساق إليها المهاجر مجندا، دون أن يستشار. يقال له:
“أنت غريب… دخيل… خطر على الأمة”. لكنه في الواقع هو من يحمل الأمة على كتفيه. هو من يبني الأبراج ويغسل المستشفيات وينظف المؤسسات ويزرع الحياة في مدينة تدّعي النقاء.
اوروبا تتكئ عليهم كعجوز تتوكأ على عكاز. فإذا ما انكسر العكاز، سقط الجسد، وانهار العرش. فماذا يتبقى من فرنسا وغيرها بلا هؤلاء الغرباء؟ ماذا يبقى من هذه الدول بلا دماء المهاجرين التي تسقي إقتصادها؟
فليعلم من هم داخل أوطانهم آمنين أن الهجرة هي دموع في الخفاء وعرق في العلن. هي شهادة ماستر عالقة في درج خزانة، تقابلها وظيفة تنظيف مرحاض في جامعة مرموقة. هي جبال من الطموح تدفن تحت صمت الواجب. هي قلوب تتآكل من الحنين، ووجوه تحاول التماسك. لكن وسط هذا البؤس، هناك صلابة تفوق صلابة الإسمنت الذي يضعونه في أبراج هذه البلدان….بل عظمة لا يراها كثيرون. هؤلاء المهاجرون، مهما حاولوا تهميشهم، هم المحرك الخفيّ. هم الجنود الذين لا يرفعون شعارات، بل يكنسون الشوارع، يداوون المرضى، ويعمرون الأبنية. هم من يجعل الجمهوريات والمملكة بأوروبا تمشي على قدميها. ومن دونهم، اوروبا ستترنح كعجوز فقدت عكازها.
إن الحديث عن المهاجر بوصفه مجرد “غريب” أو “تهديد” ليس إلا إنكارا لحقيقة دامغة: إن الجمهورية قائمة على أكتاف الغرباء. والهجرة، مهما وصمت بالعبء، هي في جوهرها القوة التي تنعش جسدا يشيخ وينطفئ.
وللأحزاب التي تشن العداء للمهاجرين المغاربيين نقول:
إن هؤلاء المهاجرون ليسوا عبئا. إنهم الركيزة. ليسوا دخيلين. إنهم القلب النابض…جيش غير مرئي، يحرّك التاريخ بصمت، ويكشف عورات قارة تشيخ، لكنه يتغذى من دماء الغرباء كي تظل قائمة
ولو إنسحب المهاجرون يوما من مواقعهم، ستنطفئ أنوار المستشفيات، ستتعفّن المؤسسات، سيتوقف المترو، وستغرق القارة العجوز وتصبح لا حول ولا قوة لها…