الملكية بالمغرب بين التاريخ والتراث ومزاعم الأقلام الغربية
بقلم: زكية لعروسي
ليست الملكية في بلادنا طارئة ولا هي بناء هش يمكن أن تزعزعه عاصفة عابرة من أقلام غربية متعالية. إنها نظام متجذر تتكاثف حوله قرون من الشرعية التاريخية والدينية والرمزية حتى غدت الملكية عندنا أفقا للهوية وركيزة للاستقرار. وهو ما وعاه العقل العربي والإسلامي منذ قرون طويلة قبل أن تتشكل صحف الغرب ومنظروها.
من يقرأ لوموند ومن شاكلها ممن يتخذون من التنكيل بالملوك والأنظمة التقليدية هواية يتوهم أن التاريخ يبدأ من عدسة باريس أو من مقالات النخبة الأوروبية. ولكن لو رجع هؤلاء إلى تراث الأمم لعلموا أن الملكية كانت دائما ضمانة وحدة ضد التشرذم، وأنها كما قال الجاحظ في كتابه التاج في أخلاق الملوك:
“الناس أحوج إلى السلطان من سلطان إلى الناس ولولا السلطان لافترست العامة بعضها بعضا”
الجاحظ المفكر النقدي العقلاني لم يكن مداحا للملوك، لكنه خلص إلى أن الملكية نظام ضروري للبقاء الاجتماعي والسياسي. وكذلك نجد عند ابن العماد في شذور الذهب أن التاريخ الإسلامي كله ينتظم في عهود وسير للملوك والخلفاء كخيط يحفظ كيان الأمة حتى في أشد فترات الاضطراب. وما فصله ابن خلدون لاحقا حول العصبية والدولة لم يكن سوى امتداد لهذه الرؤية بأن السلطة المركزية رأس العمران، وأن الدولة لا تقوم بلا ملك يطاع.
فلماذا يتوهم بعض الكتاب أن العربي والمسلم أقل قدرة على فهم طبيعته ومجتمعه من غيره؟ لماذا يشرع البعض لأنفسهم الريادة والسداد في الرأي بينما يغضون الطرف عن حقائق التاريخ القريب منهم؟ أوروبا نفسها لم تستقر إلا حين اعترفت بالملكية الدستورية وجعلتها رمزا للهوية والاستمرارية. فمن بريطانيا إلى هولندا وإسبانيا والدنمارك ما زالت الملكية عمود الاستقرار. فلماذا يباح للغرب ما يستنكر علينا؟ أليس من المثير للسخرية أن يتحدثوا عن الحرية فيما هم يحتفون بالملكية ويعدونها رمز الاستقرار والهوية الوطنية؟ أليست هذه ازدواجية في المعيار وعمى في البصيرة؟
إن الدول التي عرفت الملكية هي الأكثر رسوخا وطول عمر في التاريخ لأن طبيعة الناس والبشر والشعوب هي التي تفرض النظام لا العكس. من أراد الجمهورية فليهنأ بها، ومن وجد الاستقرار في الملكية فليوفق. قبل أن يشعل البعض النار في بلد ليس له نفس معايير التفكير السياسي والقومي، فليتوقف عن التنظير لشعوب لا يعيش واقعها. والأولى بالجرائد التي تنصب نفسها حكما أن تنتقد ملكيات أوروبا القريبة منها قبل أن تتعالى على ملكياتنا.
إن استهداف الملكية ليس نقاشا سياسيا بريئا بل هو ضرب في صميم الاستقرار. والرد ليس في الانفعال، بل في تذكير هؤلاء بلغة التاريخ لا بلغة الشعارات أن الملكية لم تفرض على أمتنا بقوة الحديد والنار، وإنما ولدت من رحمها ومن بيعتها ومن شرعية متراكمة عبر القرون. فالعاقل لا يزرع النار في دار غيره ولا يفرض على الأمم ما لم يختره أهلها. إننا لا ندعي العصمة للملكية، لكنها في وعينا الجمعي ليست مجرد نظام حكم، بل رمز الأمة واستمراريتها.
لقد قال الجاحظ أيضا: “الملوك سياج للناس والناس بغير سياج يضيعون”. ولأننا نعرف قيمة هذا السياج فإننا نتمسك به لا عن عجز في الخيال السياسي، بل عن وعي عميق بأن الأوطان لا تبنى على أهواء الأقلام، بل على حقائق التاريخ وطبائع البشر.
فمن شاء، قارئي الكريم، أن يتعلم فليقرأ تراثنا قبل أن يوزع دروسا جاهزة. فالعربي لم يكن يوما أقل فهما أو تحليلا من غيره. ولمن أحب الجمهورية فليهنأ بها، ومن وجدت نفسه في الملكية فليحمد نعمة الاستقرار. وليعلم الآخر أن ملكيتنا وإمارة المؤمنين ليستا مجرد نظام حكم، بل تجسيد لمعنى الوطن وإستمراريته، لا يضيرهما عواء عابر، لأنهما تستندان إلى ما هو أعمق من السياسة اليومية: التاريخ، والشرعية، والوجدان الجمعي.
مقال كاف وشاف للرد على من لا يدرك حقيقة ارتباط المغاربة بالملك، سواء كان شخصا أو مؤسسة إعلامية …
تحياتي وشكرا على هذا المقال المكثف الرصين.