من الأندلس إلى خُميا..ذاكرة إسبانيا بين التعايش والتفوق الديني: قراءة في خطاب ماركو باراطو

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

من الأندلس إلى خُميا..ذاكرة إسبانيا بين التعايش والتفوق الديني: قراءة في خطاب ماركو باراطو

بقلم: زكية لعروسي

ما حدث في مدينة خُميا الإسبانية من منع المسلمين من إستخدام الفضاءات العامة للاحتفال بعيدهم الديني لا يمكن قراءته كقرار إداري محلي، بل كإشارة خطيرة إلى عودة نزعة قديمة ترتدي ثوب الحاضر: نزعة التفوق الديني التي تسعى إلى إحتكار الهوية وتعريف الوطن على أنه ملك حصري لفئة دون غيرها. فالنص القانوني الذي صيغ بعبارات باردة حول “الأنشطة الأجنبية عن هويتنا” ليس سوى ستار لرسالة سياسية صريحة: إقصاء الآخر وتجريده من حقه الطبيعي في الوجود والمشاركة.
التاريخ الإسباني نفسه يكشف لنا عمق هذا المنطق. فإسبانيا لم تكن يوما أرضا مسيحية صرفة كما يزعم الخطاب الجديد، بل كانت ملتقى للحضارات والأديان. الأندلس كانت تجربة إنسانية فريدة جمعت المسلمين والمسيحيين واليهود في فضاء مشترك، حيث ازدهر العلم والفكر والفنون. غير أن اللحظة التي تحولت فيها المسيحية إلى سلاح سياسي كانت بداية الانحدار: طرد المسلمين، إضطهاد اليهود، محاكم التفتيش. في كل مرة جرى فيها أختزال الهوية الإسبانية في دين واحد، انتهى الأمر بتراجع إنساني وثقافي عميق.
ما نشهده اليوم في خُميا ليس إلا صدى لتلك الدورات المظلمة، لكنه يكتسب بعدا أوروبيا أوسع. فالقارة التي دفعت ثمنا باهظا لصعود القوميات المتطرفة والنازية والفاشية تعرف جيدا أن الانهيارات الكبرى تبدأ بخطوات صغيرة تبدو غير مؤذية. قرارات بلدية هنا وهناك، شعارات عن “النقاء” و”الأصالة”، لغة إقصاء متصاعدة، ثم فجأة يجد الجميع أنفسهم أمام واقع منغلق يعيد إنتاج منطق الحرب والاستبداد. من يتأمل القرن العشرين يعرف أن الطريق إلى الهاوية يبدأ بمثل هذه التفاصيل.
لكن الأخطر ليس فقط في القرار ذاته، بل في اللغة التي ترافقه. حين يعلن حزب مثل فوكس أن “إسبانيا أرض المسيحيين وستبقى كذلك”، فهو لا يدافع عن قيم دينية، بل يحوّل المسيحية إلى أداة سياسية، يرفعها راية لتقسيم المواطنين وإقصاء من لا ينتمي إلى هوية ضيقة مفروضة من فوق. هذا الاستخدام للدين يكرر مأساة قديمة: المسيحية كإيمان حمل رسالة محبة وإنسانية، لكن المسيحية كأداة سلطة تحولت عبر القرون إلى ذريعة للحروب الصليبية ومحاكم التفتيش والاستبداد الفرانكوي. الفرق بين المسيح والسلطة التي تتحدث باسمه هو الفرق بين رسالة خلاص وبين خطاب قمع.
المفارقة أن أوروبا، التي تتباهى اليوم بأنها القارة الحامية لحقوق الإنسان، تجد نفسها أمام إختبار حقيقي لذاكرتها. فبعد ثمانين عاما فقط على انتهاء الحرب العالمية الثانية، وبعد عقود على إعلان عالمي يكرس حرية الدين والضمير، تعود خطوات الإقصاء من جديد، لكنها هذه المرة مغلفة بخطاب الدفاع عن “التقاليد” و”الهوية”. هنا يصبح السؤال جوهريا: هل الذاكرة مجرد ترف خطابي، أم أنها التزام عملي يمنع تكرار أخطاء الماضي؟ إن التحدي الحقيقي ليس أن نتذكر، بل أن نمنع العودة إلى المنطق نفسه بأشكال جديدة.
إن الدعوة التي يطرحها ماركو باراطو إلى جبهة إنسانية ودينية مشتركة تتجاوز إسبانيا لتخاطب ضمير أوروبا كله. فالتاريخ يعلّمنا أن الأديان، حين تتلاقى، قادرة على صناعة حضارة إنسانية راقية، وحين تستعمل كسلاح سياسي تتحول إلى أداة تدمير. والمطلوب اليوم ليس الاكتفاء بإدانة لفظية، بل بناء مشروع مشترك يضع حدا لكل أشكال التفوق الديني والعنصري. هذا ليس صراعا بين مؤمنين وغير مؤمنين، بل معركة بين من يريد أن يجعل الدين جسرا للقاء وبين من يحوله إلى خندق للكراهية.
القرار الصادر في خُميا قد يبدو في ظاهره محليا، لكنه يحمل في طياته سؤال أوروبيا أكبر: هل ستسمح القارة القديمة لنفسها بأن تعود إلى دوامة الانغلاق والتطهير بإسم الدين والهوية، أم أنها ستجرؤ على حماية ذاكرتها ومكتسباتها الحضارية؟
إن ما كتبه ماركو باراطو ليس مجرد رأي صحفي، بل هو تحذير أخلاقي وتاريخي. إنه يذكرنا بأننا إذا تركنا مثل هذه الخطابات تنمو بصمت، فسنجد أنفسنا غدا نتساءل كما تساءلت أجيال سابقة بعد المآسي: كيف سمحنا لذلك أن يحدث؟
شكرا لماركو باراطو على تحليله العميق، لأنه لا يكتفي بتشخيص اللحظة، بل يستحضر التاريخ ليجعل منه مرآة حادة تكشف الأخطار الكامنة خلف ما قد يبدو تفصيلا محليا. إنه يوقظ الذاكرة الأوروبية والعالمية معا، في زمن تتكاثر فيه الأصوات التي تحاول إعادة كتابة الهوية على مقاس الإقصاء والخوف.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!