هندسة الخروج في الإدارة الترابية المغربية:هل تُدار أعطاب السلطة أم تُدار السلطة بالأعطاب؟
هندسة الخروج في الإدارة الترابية المغربية .. هل تُدار أعطاب السلطة أم تُدار السلطة بالأعطاب؟
عبدالإله العتوبي، باحث في علم اجتماع الهشاشة والحياة اليومية.
في بنية الدولة المغربية، لا يتم تدبير مهام رجال السلطة بمنطق إداري محض يخضع حصريا لتراتبية القوانين أو لبنود النظام الأساسي للوظيفة العمومية، بل غالبا ما تدار من موقع مركب حيث تتقاطع السلطة بالرمز، والولاء بالخبرة، والمصلحة بالحسابات الدقيقة لمؤسسة المخزن.
وهنا، تبرز ظاهرة لافتة يمكن تسميتها بـ”هندسة الخروج”، هي آلية غير مصرح بها لكنها متكررة، يتم من خلالها تدبير لحظة مغادرة رجال السلطة البارزين لمواقعهم، ليس كقرار إداري بقدر ما هو طقس سياسي يدار بأدوات رمزية، ويؤدي دورا دقيقا في الحفاظ على تماسك السلطة ومهابتها أمام الرأي العام. فحين يصل رجل سلطة إلى سن التقاعد أو يستوفي مدته في الإدارة الترابية، لا تتم إزاحته بطريقة فجة، بل يمنح تمديد ضمني أحيانا، أو يعاد تدويره في مهام أخرى، ريثما تنسج خلف الكواليس طريقة مناسبة لإخراجه من الواجهة دون أن يمس ذلك بالهيبة الرمزية التي راكمها طوال سنوات من خدمة الدولة.
هذا ما يبدو جليا في حالة الوالي فريد شوراق، الذي قضى ولايتين عاملا على إقليمي الرحامنة والحسيمة، ثم عين لاحقا واليا على جهة مراكش آسفي رغم تجاوزه السبعين سنة، قبل أن يعفى فجأة من مهامه بعد واقعة بدا فيها وكأنه خالف تعليمات ملكية سامية بخصوص إلغاء شعيرة الذبح في عيد الأضحى، إذ ظهر في فيديو يوثق لحظة وقوفه أمام مجموعة من المسؤولين خاصة ممثل المجلس العلمي للجهة الذي يمده بسكين من الحجم الكبير قصد قيامه بذبح الأضحية وفق الطقوس الرسمية، الا أن الفيديو لم يوثق حمل السيد الوالي للسكين ولم يوثق قيامه بفعل الذبح، بل وقوفه شبه مندهش مما يدور حوله، في مخالفة واضحة لما تقرر على أعلى مستوى من مؤسسة إمارة المؤمنين وهو ممثلها الرسمي معية من تحلقوا حوله من باقي أجهزة الدولة…
غير أن القراءة السوسيولوجية للحدث تدفعنا إلى تجاوز ظاهر الوقائع، فالرجل، المعروف بانضباطه وحنكته الإدارية، يصعب تصديقه أنه ارتكب هذا الخطأ الجسيم عفويا أو سهوا، خصوصا إذا علمنا أن إشارات الملك حفظه الله وأعز أمره المطاع في هذا النوع من القضايا لا تقبل التأويل. وهنا، يمكن القول بأن ما حدث لم يكن إلا إخراجا مسرحيا دقيقا لسيناريو معد سلفا، حيث يصبح “الخطأ” مجرد أداة رمزية لتبرير قرار كان جاهزا في الأصل، أي أن الطقس الديني لم يكن خطأ، بل ذريعة، وأن الإعفاء لم يكن عقوبة، بل طقس مضاد لخروج محكم الإخراج.
إن هذا النوع من التدبير يندرج ضمن ما يسميه بيير بورديو “اللعب داخل الحقل”، حيث يمارس الفاعلون أدوارهم وفق منطق الرأسمال الرمزي وتوازنات القوى داخل الحقول الاجتماعية، لا وفق منطق القوانين أو النوايا فقط. السلطة في المغرب لا تمنح فقط، بل تسحب أيضا ضمن طقوس شبيهة بتجريد الفارس من سيفه دون أن يقال له صراحة إنه انتهى.
وفي سياق كهذا، لا يكون الإلحاق بوزارة الداخلية شكلا من التهميش، بل في الغالب هو إعادة تموضع داخل دوائر الحكم الخفية، حيث يتم الاشتغال من الظل دون أضواء، لكن بأثر فعال. وهنا تستعيد أفكار ميشيل فوكو معناها حين يقول إن السلطة لا تختفي، بل تتبدد في قنوات غير مرئية وتمارس بوسائل لا تحتاج إلى تمظهر مباشر، كما تذكرنا مقاربة إرفينغ غوفمان بأن الفعل السياسي ليس إلا مسرحا، تتبدل فيه الوجوه لكن تبقى الأدوار قائمة.
وفي هذا السياق، لا يكون إعفاء شوراق خضوعا للقانون، بل إخراجا لرجل سلطة من خشبة المسرح الرسمي نحو الكواليس، حيث تمارس السلطة من مواقع رمادية أكثر تأثيرا. إنها لحظة تجريد لا تعلن، ولكنها تفهم من إشاراتها، حيث تحمي الدولة رموزها حتى في لحظة إعفائهم، عبر هندسة خروجات تضمن ألا ينظر إليهم كمن سقط، بل كمن أُعيد ترتيبه في مكان آخر، وفق منطق السلطة الذي لا يعترف بالنهاية، بل فقط بالتحول.