بين ذاكرة الهامش وخطاب “المدينة الذكية”… تأمل سوسيولوجي في التغيير
بين ذاكرة الهامش وخطاب “المدينة الذكية”… تأمل سوسيولوجي في التغيير
لم تكن مدينة ابن جرير، عاصمة إقليم الرحامنة، تحضر في المخيال الجماعي المغربي إلا كمنطقة فوسفاطية صامتة، هامشية، تتعايش مع استنزاف ثرواتها الجيولوجية بقدر كبير من الصبر والانتظار. كانت المدينة تنمو في الهامش، وداخل الهامش، كفضاء غير مرئي إلا حين يتعلق الأمر بالاستغلال الاقتصادي أو التوظيفات الموسمية. في تلك الحقبة، لم تكن هناك “رؤية”، بل حاجات مادية بسيطة: مدارس قليلة، بنية تحتية متآكلة، وفضاءات سكنية تنمو ببطء حول مناجم الفوسفاط. كانت العلاقة بين الإنسان والمجال تقوم على مبدأ الضرورة، لا على تصور رمزي للمدينة.
لكن منذ بداية الألفية الجديدة، وتحديدا بعد انخراط المكتب الشريف للفوسفاط في مشاريع إعادة التأهيل العمراني والبيئي، بدأت المدينة تتلون بخطاب جديد: مدينة خضراء، جامعة ذكية، مشاريع مستدامة، فضاءات رقمية، ومجتمع معرفي. تحولت ابن جرير من “قرية فوسفاطية” إلى مختبر حضري لنموذج تنموي يراد تعميمه. إلا أن هذا التحول، من منظور سوسيولوجي، لا يمكن أن يُفهم فقط من زاوية التخطيط أو الهندسة، بل يجب النظر إليه كعملية إعادة تشكيل للسلطة الرمزية داخل المجال، كما عبر عن ذلك بيير بورديو.
من هذا المنظور، لم يعد المجال الحضري مجرد فراغ عمراني يعاد ترتيبه، بل أصبح أداة إعادة إنتاج لرؤية معينة للمستقبل، غالبا ما تستبعد الفاعلين المحليين من القرار، وهنا نستحضر أطروحة هنري لوفيفر في “إنتاج الفضاء”، والتي تؤكد أن الفضاء لا يُنتج فقط بالخرائط والمخططات، بل بالرغبات، بالصراعات، بالرموز، وبالذاكرة الجماعية. أي مشروع عمراني لا يأخذ بعين الاعتبار ذاكرة المكان وساكنيه، هو مشروع قابل للانفصال الاجتماعي حتى وإن بدا ناجحا عمرانيا.
فابن جرير اليوم، على الرغم من الزخم الذي تخلقه مشاريع مثل جامعة محمد السادس متعددة التخصصات UM6P، لا تزال مدينة متوترة من الداخل، تخفي هوة بين ما يُبنى فوق الأرض، وما يُهمّش تحتها، فالسكان القدامى ما زالوا يعانون من ضعف التشغيل، ومن الفقر البنيوي، ومن محدودية الإدماج في المشروع الجديد. هنا يمكن استحضار منظور ريمون بودون حول “اللاعقلانية في الاختيارات الجماعية”، حيث تصبح مشاريع التحديث عقيمة حين لا تصاغ انطلاقا من الواقع المحلي، بل تُفرَض من فوق.
وهذا التوتر بين “المسوق إعلاميا” و”المعاش اجتماعيا” يخلق مفارقة واضحة: هل ابن جرير مدينة المستقبل؟ أم أنها مجرد صورة مستقبلية مُعلقة في الهواء، لا تجد جذورها في تربتها؟
سوسيولوجيا، لا يمكن تجاوز هذه الإشكالية دون العودة إلى سؤال أساسي: لمن تبنى المدينة؟ من يقرر شكلها وهويتها؟ هل ساكنها هو فاعل فيها أم مجرد متلق للتغيير؟ الإجابة تحيل إلى ضرورة بناء ديمقراطية مجالية، تشرك الفاعلين المحليين في صياغة رؤى التنمية، لا أن تحوّلهم إلى “مستهلكين للتمثلات”.
إن ابن جرير تجسد اليوم حالة مغربية أعمق: رغبة الدولة في تجاوز الهامش، عبر مشاريع ضخمة، لكن غالبا بمنطق تكنوقراطي يتغافل عن السوسيولوجيا اليومية، وفي غياب مصالحة بين الإنسان والمجال، بين الذاكرة والرؤية، يبقى الخطر قائما بأن ننتج مدنا جميلة لكنها فارغة، متقدمة تقنيا لكنها هشة اجتماعيا.
عبدالإله العتوبي، باحث في سوسيولوجيا الهشاشة والحياة اليومية.