حين يصبح العمال مجرد أرقام منسية
حين يصبح العمال مجرد أرقام منسية
بين ركام القرارات الإدارية الباردة، وبين حسابات السوق التي لا تعترف بالإنسان، يقف مئات العمال على أعتاب المجهول، بعد أن أُغلقت أبواب الرزق في وجوههم. لم يكن الخطأ خطأهم، ولم يكن الإهمال إهمالهم، ورغم ذلك، كان مصيرهم الضياع، لأن رقابة مفتشية الشغل غائبة، ولأن التصريح بهم لدى الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي كان رفاهية لم يمنحها لهم أرباب العمل.
هكذا، بقرار إداري صارم، تم توقيف خمس شركات للمناطيد عن العمل في”جماعة بورّوس”، بناء على تجاوزات تقنية. قرار اتخذته المديرية العامة للطيران المدني استنادا إلى مخالفة رصدت يوم 8 ماي، لكنه لم يكن سوى تفصيل في مأساة أكبر: مأساة العمال الذين وجدوا أنفسهم بين ليلة وضحاها عاطلين عن العمل، بلا ضمانات، بلا تعويض، بلا صوت ينصفهم في هذه المعادلة المختلة.
هؤلاء العمال لم يكونوا مجرد موظفين عابرين في هذه الشركات، بل كانوا العمود الفقري الذي حمل أعباء التشغيل، وصنع نجاحاتها بصمت. لكن حين جاءت الأزمة، لم يجدوا من يدافع عن حقوقهم، لأن النظام الذي كان يفترض أن يحميهم غائب، ومفتشية الشغل التي كان عليها مراقبة التصريحات والتصدي لاستغلال العمال، لم تكن موجودة إلا على الورق.
في بلدٍ يفترض أن يضمن فيه الصندوق الوطني للضمان الاجتماعي حماية اليد العاملة، كان يمكن لهؤلاء العمال الاستفادة من التعويض عن فقدان الشغل بنسبة 70% من أجرهم لمدة ستة أشهر، مما كان ليخفف عنهم الأزمة. لكنه ظل تعويضا محجوبا عنهم، لأنهم لم يصرح بهم في الوقت المناسب، ولأن أرباب العمل تهربوا من مسؤولياتهم وتركوا مصير العمال للمجهول. وهنا يظهر الفشل الحقيقي: ليس في القرار الإداري وحده، بل في غياب الرقابة التي كان يجب أن تفرض الالتزام منذ البداية.
القضية ليست مجرد مأساة فردية، بل هي صورة مصغرة لما يعانيه آلاف العمال الذين يجدون أنفسهم بلا حماية قانونية، تركوا ليواجهوا مصيرهم في نظام يفرّق بين المصرح بهم وغيرهم، دون أن يحاسَب المتسبب في هذه الفوضى. ما حدث في “جماعة بوروس” ليس سوى انعكاس لغياب الرقابة، لتراخي الجهات الوصية في مراقبة سوق العمل، ولترك العمال يستغلون ثم ينبذون عند أول اختبار.
لا بد أن يكون هذا الواقع درسا للجهات المختصة، فالعدالة الاجتماعية لا تصاغ في الخطابات الرنانة، بل تكتب على أرض الواقع من خلال قوانين تطبق، ورقابة لا تتهاون، وضمانات تنصف العامل قبل أن يصبح رقما منسيا في دفاتر النسيان.
إنصاف العمال ليس رفاهية، بل حق لا يقبل التسويف. فإلى متى سيظل صمت الجهات المعنية يمنح التجاهل شرعية لا يستحقها؟