صحيفة إلكترونية مغربية عامة

رمضان شهر الاحتراق الروحي والتطهير الذاتي

زكية لعروسي

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

 حرارة رمضان واحتراق الروح

رمضان ليس مجرد شهر للصيام والامتناع عن الطعام والشراب، بل هو مرحلة تحول روحي عميق، حيث تشتعل نار المجاهدة في النفس، لتحرق أدرانها وتقربها من النقاء الإلهي. هذه الفكرة ليست مجرد تأملات دينية، بل تمتد جذورها في اللغة والتصوف والتاريخ الإسلامي.
فلماذا سمّي رمضان بهذا الاسم؟ وما العلاقة بين الحرارة الجسدية والاحتراق الروحي؟ وكيف تناول الصوفية هذه الفكرة العميقة؟ هذه الأسئلة تأخذنا إلى رحلة في المعنى الباطني لهذا الشهر الكريم. فلماذا سمِّي رمضان برمضان؟

وقد جاء في كتب اللغة أن “رمضان” مشتق من الرَّمَض، والذي يعني شدة الحر أو حرارة الشمس على الرمال والحجارة, ومن هنا، ارتبط الاسم بمفهوم الإحراق والتنقية، وكأن الشهر جاء ليُحرق الذنوب ويطهر القلوب من أدرانها.
يقول ابن دريد في كتابه جمهرة اللغة:
“لما نقلوا أسماء الشهور عن اللغة القديمة، سموها بالأزمنة التي وقعت فيها، فوافق رمضان وقت الحر فسمّوه بذلك”.
سُمّي شهر رمضان بهذا الاسم لأن العرب كانوا يطلقون أسماء الشهور في زمن جاهليتهم بناء على الظروف التي كانوا يعيشونها وقت التسمية.
إذن، التسمية ليست عشوائية، بل تعكس بُعدا زمنيا وظرفيا، ولكن هل للحرارة معنى أعمق في السياق الروحي؟

إذا نظرنا إلى التصوف الإسلامي، نجد أن مفهوم الاحتراق يتكرر كثيرا في سياق التطهير والسمو الروحي. فكما أن النار تحرق الشوائب وتكشف الجوهر الصافي، كذلك رمضان يحرق الشهوات ويعيد للنفس صفاءها الفطري.

1- الاحتراق كوسيلة للتطهير

يرى الصوفية أن الحرمان الجسدي بالصيام يؤدي إلى احتراق الحجب المادية التي تفصل الإنسان عن الله. يقول الشيخ ابن عطاء الله السكندري:
“إذا أردت أن تصفو روحك، فاجعل جسدك يحترق جوعا وعطشا، فإن الجوع نار تحرق علائق الدنيا، ولا يبقى إلا الحق”.
وبهذا، يكون الجوع ليس مجرد معاناة جسدية، بل وسيلة روحية للحرق والارتقاء.

2- حرارة الحب الإلهي والاشتياق

يؤكد الصوفية أن حرارة رمضان ليست فقط حرارة جسدية، بل هي لهيب الشوق إلى الله. فكما يحترق العاشق شوقا لمعشوقه، يحترق الصائم شوقا إلى لقاء الله وإلى لحظة الفطر كرمز للوصول.
تقول رابعة العدوية، وهي من أشهر الصوفيات التي ربطت بين الحب الإلهي والاحتراق:
“إلهي، احرقني بنار حبك حتى لا يبقى في قلبي مكان لغيرك”.
وهذا المعنى يتجلى في رمضان، حيث يُحرق الإنسان بالجوع والعطش والصلاة والمجاهدة، ليصبح قلبه خالصا لله وحده.
3- الصيام كوسيلة لإحراق الذنوب

جاء في الحديث الصحيح عن النبي (ص): “من صام رمضان إيمانًا واحتسابًا غُفِر له ما تقدم من ذنبه” (متفق عليه).
والغفران هنا يُفسّر عند الصوفية بأنه احتراق الذنوب في نار الجوع والعبادة، حتى يُولد الإنسان جديدا.
يقول جلال الدين الرومي:
“كل نار تحرق إلا نار الحب، فإنها تطهر… والصيام نار الحب التي تحرق أدران النفس وتبقي نور الروح”.
وهذا يعكس كيف أن رمضان ليس فقط صوما عن الطعام، بل هو نار تطهير روحية، تحرق ما في القلب من أهواء وشهوات. فكيف يتحقق الاحتراق الروحي في رمضان؟

إذا كان رمضان شهر الاحتراق، فكيف يمكن للإنسان أن يحقق هذا التطهير الروحي؟

يجب ان يكون الصيام بوعي وليس عادة. يقول الصوفية: “ليس الصيام عن الطعام، ولكن الصيام عن الغفلة”. وهذا يعني أن الامتناع عن الطعام يجب أن يكون مصحوبا بـانقطاع النفس عن الشهوات والأفكار السلبية، حتى يتحقق الاحتراق الكامل للذنوب والهوى.

في رمضان، تزداد الطاقة الروحية للصائم، ولهذا فإن الذكر والتأمل والتفكر يصبح أكثر تأثيرا. يقول الجنيد البغدادي:
“الصيام نور، والذكر وقود، فإذا اجتمعا أضاء القلب كما يضيء السراج إذا اجتمع الزيت والنار”.

إن قيام الليل في رمضان هو أوج الاحتراق الروحي، حيث يسجد العبد في أقرب لحظة إلى الله، ويذوب في مناجاته. يقول الإمام الغزالي:
“في قيام الليل احتراق لا يعرفه إلا من تذوقه، كاحتراق الشمعة التي تذيب نفسها لتضيء الطريق”.
رمضان ليس مجرد صيام عن الطعام، بل هو نار روحية تحرق الذنوب، وتطهر القلب، وتقرّب العبد من الله. وهو يشبه المحرقة التي يتجرد فيها الصائم من أهوائه، ليولد من جديد بقلب نقي صاف.
وهكذا، فإن رمضان هو موسم الاحتراق الإلهي، حيث يحترق كل ما في النفس من شوائب، فلا يبقى إلا النور.

بقلم زكية لعروسي.

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!