صحيفة إلكترونية مغربية عامة

أذكياء ولكن… قصة قصيرة للكاتبة المغربية سناء إدمالك

توقيع:سناء إدمالك

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

ها نحن ذا قد وصلنا إلى قرية العم يحيى، العالم الفذ صاحب مشروع دمج التكنولوجيا والإبداع الفني. لقد أحدثت أفكاره ثورة حقيقية وتحولات عميقة في حياتنا… عندما ولجنا بوابة القرية، أعلن لنا حارسها ضرورة زرع شريحة على الجبين، ودون سابق إنذار دسَّ أصبعه بخفة على حلقة إشعاعية وأُلقى بنا نحن الثلاثة إلى عالم الروبوتات الذكية. لقد شاهدنا قافلة منهم تنطلق من خلف تلة زجاجية نحو جزيرة صغيرة تبدو كأنها قاعدة عسكرية، حاملين أغراضًا مشعةً … مصطفين وراء قائدهم في نظام وانتظام.

تم توليد الصورة بالذكاء الإصطناعي

تقدم نحونا جمهور من الآليات الذكية على هيئة بشر مرحبين بنا بطريقة جافة خالية من اللطف واللباقة، وانطلقنا صحبتهم على سفينة نفاثة تطير بسرعة البرق صوب الجزيرة، ذاك المكان الذي جمع أبي والعم يحيى أول مرة منذ خمسين عاما. لقد كان حلمهما خلق حياة متطورة بهذا المرتع… حياة يعيشها الفرد في رفاهية وثراء. هكذا كانت أحلامهما، وها نحن اليوم نحصد ما زرعاه من آمال وأمنيات.

حينما وصلنا الجزيرة، كاد الخال محمد أن يغمى عليه، أما ابنه حسن فقد انعقد لسانه وهو ينظر إلى عظمة البنايات وشساعة الطرقات. يا لجمال هذه الجزيرة! لم يذكر لنا أبي رحمه الله هذا العالم العجيب يوما… كيف استطاع أن يعيش بيننا مبدع فنان وعالم في التقنيات دون إخبارنا بروعة ما حققه من إنجاز عظيم وفن راق؟…ولماذا قرر العم يحيى اليوم الكشف عن المستور؟

فجأة سمعنا صوتا مألوفا… يا يوسف، ما أقساك! ثارت في ذهني زوبعة من الأسئلة… توجهت نحو الصوت فشاهدت العم يحيى وقد تهدل بدنه وضعف بصره، أسرعت نحوه وعانقته بقوة، ضمني إليه وفاضت عيناه دمعا… لم يتوقع بعد سنين طويلة أن يزوره أحد من أحبائه أو أقاربه.

طاف بنا العم الجزيرة كلها وعرّفنا على مساعده القائد الآلي… توجهت إليه كي أسلم عليه، لكنه بدا متحجرا وباردا، أدركت أنه غير قادر على التعامل مع البشر بعطف ورقة وحنان، وتيقنت أنه آلي مبرمَج على إلقاء التحية وحسب. نظر إلى الشريحة على جبيني ثم انصرف.

لقد أثار هذا التصرف فضولي، فأسرعت إلى العم يحيى أستفسره الأمر:

– ما قصة الشريحة يا عم؟

تعجب لنباهتي، وأجاب:

– هو بروتوكول خاص بزوار الجزيرة. هل أمنحك فرصة السفر عبر بوابة الزمن إلى أماكن فريدة؟ خذ خالك وابنه معك واستمتعوا برحلاتكم…

لم أستسغ رده وأحسست أن وراء هذه الشريحة سرًا دفينًا. قررت وقتها الكشف عن سرّ إخفاء أبي لهذي الجزيرة، والبحث عن خباياها وأسرارها. لم تكن في نيتي استكشاف إمكانيات الذكاء الاصطناعي والآفاق التي يفتحها لتيسير الحياة البشرية بقدر ما دفعني فضولي إلى البحث عن الدافع وراء إخفاء حقيقة هذا العالم العجيب.

قضيت وقتا طويلا في البحث، وبعد مرور بضعة أيام، قابلت قُبالة بوابة العودة إلى أرض البشر آليا يبدو من خلال شكله أنه حديث الصنع، كان غريبا يشبه المخلوقات الفضائية كثيرا. وعند النظر إلى الشريحة على جبيني، ابتسم وحاول أن يمسك يدي. خفت وابتعدت، لم أجرؤ على ملامسته. كيف لي أن أصافح كائنا غريبا…؟؟ كنت متيقنا على أن آليي هذه الجزيرة مبرمجون على التعامل مع الزوار من خلال تلك الشريحة الملصقة على الجبين… فقررت نزعها، حاولت كثيرا… ولم أتمكن من التخلي عنها إلا بعد محاولات عديدة. وبمجرد أن تخلصت منها، تلقيت صعقات كادت تقتلني لولا تدخل العم يحيى. أدركت حينها أن هذه الكائنات ليست سوى مجرد أجهزة مبرمجة على الهجوم والفتك، حتى وإن شُبِّهت إلى حد كبير بالإنسان لن تكون مشاعرها وأحاسيسها إنسانية ولن تتربى على القيم الكونية حتى وإن كان مبرمجها أعلم الناس وأذكاهم.

قررت مواجهة العم والحديث معه، وقلت له بكل ثقة وعزم:

  • كيف استطعت العيش سنين عديدة مع آليين تعبيرهم خال من العاطفة والوجدان؟

ظل صامتا لوقت طويل، ثم أمعن النظر إلى الجزيرة ومن عليها، فقال:

  • هو حلم شغل بالي زمنا طويلا… لقد أفنيت شبابي من أجل هاته اللحظة. ورغم انسحاب والدك، أصررت على تحقيقه، وها أنت اليوم تعيش زمن التكنولوجيا بامتياز. لقد استطعت المزج بين الإبداع البشري والتكنولوجيا، وحققت بذلك نجاحات كثيرة في مجالات عديدة وميادين مختلفة.

بدت لي تجربة العم يحيى قاسية ومريرة…لم أجد متعة في برمجة الآليات، بدا لي الوضع غير طبيعي، فلا مجال للعبقرية والوحي في هذا الموضوع. على الإنسان أن يعيش مع بني جنسه وبين أحضان الطبيعة… سيظل العمق الوجداني جوهريا في حياة الإنسان… ولكن ماذا لو امتلك الإنسان الآلي وعيا عاطفيا في المستقبل…؟ شعرت بمخاوف وتهديدات محتملة، فهذا التطور الرهيب سيغير، لا محالة، نمط عيشنا وسيؤثر في علاقاتنا، ويمكن أن يسبب أزمات نفسية وتدهورا صحيا ومشاكل أمنية وصعوبات في التواصل… قد يطرح الذكاء الاصطناعي تهديدات خطيرة على حياة البشر… أسئلة محيرة راودتني وشغلت بالي وتفكيري؛ أهذا الذكاء الاصطناعي فرصة أم خطر؟ كيف سنستعد لمواجهة استبدال الإنسان بالآلة؟ وأنّى لنا أن نتواصل دون حميمية، وأن نعيش في جو خال من الشعور بالدفء والحنان؟

لقد أدركت أخيرا سبب تخلي أبي عن حلمه، فهو الأب الرحيم المحب لعائلته وأصحابه، لعلّه تنبه مبكرا إلى خطورة الانسلاخ عن جلدته، وتيقن أن الحياة البشرية ملؤها العطف والألفة والمودة… ولربما أدرك أن تجربة العيش مع الآليين تجربة تسعى إلى تجريد الإنسان من ذاته البشرية.

استأذنت العم يحيى بالعودة رفقة الخال وابنه إلى ديارنا، حيث الجلسات والتجمعات والأحاديث والمناسبات. اشتقت سريعا لحياتنا البسيطة ولتواصلنا الدافئ، ولموائدنا وطقوسنا وعاداتنا وأعمالنا. فرغم الأعباء والصعوبات التي نواجهها، تظل حياتنا ملائمة لطبيعتنا البشرية… حياة وفناء، وراحة ونزاع، وخير وشرور، ونجاح ورسوب، وحمد وقنوط، وصراعات ومحبة وألفة…كم تمنيت لو تبدد سحاب هذا الكابوس المخيف، وانطفأ لهيب هذا الحلم المجنون، وكم كنت سأسعد لو عاد العم يحيى إلى رشده ليحيا ما تبقى من عمره بين أهله وأحبته في راحة وسلام ونعيم.

سناء إدمالك: كاتبة مغربية

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!