صحيفة إلكترونية مغربية عامة

طقوس الحرث لدى برابيش بني حسان: رحلة بين البركة والتحديات العصرية

أميمة لعوينة

0

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

الحرث قديماً كان يحمل بركة وفوائد كبيرة، بينما اليوم، فقد الفلاحون تلك البركة مع التغيرات البيئية والتكنولوجية التي أثرت على الأرض والإنسان. في هذا الربورتاج، سننقل القارئ إلى طقوس الحرث التقليدية وكيف أثرت التغيرات على حياة الفلاحين في البوادي المغربية.

  “كنا نحرثوه قليل ونحصدوه كثير، أما دابا نحرثوه كثير وما كاينة فيه بركة” هي كلمات حررتها حنجرة “مي عيشة” وعيناها تتطلع إلى السماء الغائمة في حسرة على حال الأرض التي أضحت خالية إلا من بعض العشب الأخضر الذي تكلف أصحابه عناء التنقيب عن المياه الجوفية وغرسه ككلأ لماشيتهم التي أصابها الضمور بسبب توالي سنوات الجفاف.

طقوس خاصة

“مي عيشة” هذه هي سيدة سبعينية تعود أصولها القبلية إلى برابيش بني حسان، التقينا بها أمام باب منزلها الطيني القابع على بعد أمتار من دوار أولاد اعمر جماعة لمحرة إقليم الرحامنة، وهي منهمكة في تقطيع نبتة “الخُبِّيزة” اتضح من حديثها أنها تقوم بتشذيبها من أوراقها الكبيرة محتفظة بالجذوع وبعض الأوراق الصغيرة، لتهيِّئها بعد ذلك في قِدر مصنوع من الطين مع التوابل وقليل من الطماطم، فتصبح طبقا مطلوبا في فصل الشتاء.

استرسلت “مي عيشة” في السرد لتروي لنا طقوس موسم الحرث قديما ” كنا نتخذ (النوالة) وهي عبارة عن خيمة مصنوعة من القصب موطنا لنا طيلة موسم الحرث وحتى موعد الحصاد، نذهب ببعض متاعنا وحتى مواشينا نستقر في منطقة (اليعقوبية)”، وتضيف السيدة السبعينية ” كنت أفلّح الأرض مع أبي ثم من بعده زوجي (الله يرحمهم) بواسطة المحراث الخشبي يجره زوجين من البهائم سواء حمار وبقرة أو حمارين، ننثر البذور قبل ذلك في الأرض على مقياس قدرتنا على الحرث كي لا تظل البذور تائهة على سطح الأرض يذهب بها الطير أو تدروها الرياح”.

اعتدلت “مي عيشة” في جلستها على مقعدها (هيدورة خروف الأضحى) وهي تلف إيزارا أبيض على كامل جسمها يغطي حتى رأسها واستمرت بعدما بلعت ريقها واغرورقت عيناها بالدموع في حنين ظاهر للماضي، ” كانت لمراسيم موسم الحرث طقوسا خاصة غالبا ما يتوج تعبها بانتصار صارخ على الطبيعة، فمع استهلال شهر أكتوبر، وحينما تكتظ السماء بالغيوم معلنة عن بداية فصل الشتاء يهرع الفلاحون رجالا ونساء وحتى الأطفال في إخراج الزرع من (المطمورة) وتجهيز معدات الحرث البسيطة استعدادا لدوام مستمر لا تقطعه سوى الرغبة في القليل من الشاي أو بعض الخبز واللبن، وإلا فما عدى ذلك هو التهاء عن خدمة عنوانها “من جد وجد ومن زرع حصد”، وتضيف قائلة: ” كانت تمارة كثيرة وحتى الصحة، أما دابا تمارة نقصات وحتى الصحة معاها نقصات”.

تعلق بالمجال

غير بعيد عن مسكن “مي عيشة” رمقنا وسط الدوار منزلا صغير الحجم ذو جدران قصيرة تظهر متآكلة بفعل العوامل الطبيعية، اتضح فيما بعد أنه لرجل مسن يدعى “الحاج محمد” لم يستطع أن يبرحه رغم هجرة أبنائه إلى المدينة، فعقد اتفاقا مع نفسه يقضي بولائه لدواره ومسكنه حتى يوارى جثمانه الثرى. ” كل مسار كنا نخطه بالمحراث على الأرض يحمل الكثير من الحكايات وآلاف الآمال، رجاؤنا أن تجود السماء بخيرها لكي لا يضيع كدنا سدى، فقواطع المواشي تنتظر كلأها، وبطون الأطفال تنتظر طعامها” هو ما صرح به “الحاج محمد” هذا الرجل الذي قارب التسعين من عمره، تنعكس بشكل باد على جبهته وكامل وجهه الذي غطته التجاعيد، ليضيف ” أصبحنا الآن أمام محنة حقيقية نحن ضعفاء الحال، اكفهرت السماء في وجوهنا، لم نعد نقوى على مسايرة هذا الزمن وآلاته المتطورة التي أضحت كأشباح منتصف الليل، تسطو على الأرض وما إن يبزغ نور الفجر حتى تجد أن العديد من الهكتارات قد حرثت، العمل الذي كان يستغرق منا شهور متتالية أضحى إنجازه لا يتعدى ليلة واحدة”، أصدر العجوز تنهيدة توحي بقليل من التعب وكثير من الحسرة، ثم قال:” لا يمكن أن تعوض أحدث آلات الفلاحة تلك المواسم التي خلت، لم تكن فقط نشاطا فلاحيا عاديا سواء ارتبط بالحرث أو بالحصاد، بل كانت تحمل مشاعر إنسانية وارتباطا قويا بالأرض لطالما قل نظيره اليوم، ولم تكن الغاية مادية بالأساس بقدر ما كانت تعبر عن هويتنا في تعلقها بجذور هاته الأرض”.

أساليب وأدوات تقليدية

كانت البوادي في سنوات ما قبل الألفية عنوانا لبساطة الأنشطة الفلاحية التي تدار بمحراث خشبي ومنجل ثم دابة تساعد على الحمل أو الجر، حدثنا “الحاج محمد” عن ذلك وهو يهم بتغيير وضعية التربع إلى جلسة أكثر راحة اعتبارا لوضعه الصحي، وأضاف ” تحولت معظم الأراضي إلى قطع مسيجة بشباك من حديد تخلى عنها مالكوها لفائدة أصحاب شركات ليديروها بمشاريع ضخمة، لم تعد الأرض مستقلة إلا في تلك المسارات ما بين السياجات، لقد فقدت البادية ألفتها المعهودة، لم نعد نسمع بعادة (تاغنجة) ذلك التوسل للخالق من أجل أن ينعم على عباده وبهيمته بالمطر، فترى النساء يحملن قصبة بعدما ألبسوها ثيابا نسائية من فستان وحزام وكذا مئزر لشد الرأس، يطوفون حول المسجد مرددين عبارات من قبيل (تاغنجة يا مرجة يا ربي تعطينا الشتا)، ثم يعملن على طهي العصيدة وإطعام الأطفال، وسط جو تملأه مشاعر العلاقات الإنسانية”.

غادرنا مسكن ” الحاج محمد” ومنه دوار أولاد اعمر مخلفين وراءنا وجوه أهال شحب لونها مثلما شحبت السماء من المطر، يتطلعون بتؤدة، وفي قرارة أنفسهم غصة خطها الحنين إلى مواسم قد خلت، لو يستطيعون أن يوقفوا عجلة الزمن ليحدثوه أنها لم تكن محطتهم المختارة ولا الوجهة التي يريدونها، لو يسمعهم كي يغير الاتجاه في خط العودة نحو تفاصيلهم، لكن أيمكن أن يسمع الزمن أنين أجساد أتى هو على أرواحها؟

احصل على تحديثات في الوقت الفعلي مباشرة على جهازك ، اشترك الآن.

قد يعجبك ايضا
اترك رد

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!